((الْإِسْلَامُ دِينُ الْرَّحْمَةِ وَالسَّلَامِ))
وَيَلِيهَا
((فَضْلُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ وَصَوْمِ عَاشُورَاءَ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((دِينُ اللهِ مُحَارَبٌ، وَلَكِنَّهُ دِينٌ مَنْصُورٌ عَزِيزٌ))
فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِخَلْقِهِ دِينًا مَنْصُورٌ عَزِيزٌ غَالِبٌ، حَفِظَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَلَا يُدْرِكُهُ تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْرِيفٌ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ تَلْحَقَهُ هَزِيمَةٌ أَوْ يُحِطْ بِسَاحَتِهِ انْكِسَارٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّ اللهِ فِيهِ.
وَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ، وَأَهْلُهُ مُمْتَحَنُونَ، وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ، فَلَا تَعْجَبْ فَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ.
فَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي هُوَ دِينُهُ، هُوَ -جَلَّ وَعَلَا0 حَافِظُهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، وَهُوَ مَنْصُورٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَبِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدْرِكَهُ هَزِيمَةٌ وَلَا أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ انْتَمَى إِلَيْهِ، وَانْتَسَبَ إِلَى حَقِيقَتِهِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُ، أَنْ يَأْتِيَهُ مَا يَأْتِي مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خَلْقِهِ {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وقد بَيَّنَ ربنا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أن هذا الدين مُحَارَبٌ من اليوم الأول {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
وَقَدْ كَانُوا مُشْفِقِينَ مِنْ نُزُولِ الْخَيْرِ وَحْيًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانُوا فِي مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَضَنْكٍ وَعَنَتٍ، هَلْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّ الْأُمِّيِّينَ وَبَعَثَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ ﷺ فِي الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسِبُ.
وَحَارَبُوا دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ مَكْرٍ وَخِدَاعٍ، وَبِكُلِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ، وَتَحْرِيفٍ وَتَزْيِيفٍ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]. فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ سَيَكُونُ هَذَا دَأْبُهُمْ أَبَدًا، يَجْمَعُونَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ عُدَّتِهِمْ وَعَتَادِهِمْ لِحَرْبِ الدِّين وَمُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَالًا وَمَقَالًا، لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَأْلِيفِ الْكُتُبِ، وَإِشَاعَةِ الدِّعَايَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِفِتْنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، وَلِبَثِّ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمُحَارَبَةِ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعُدَّةِ وَالْعَتَادِ وَالسِّلَاحِ، وَبِالدِّعَايَةِ الْمُغْرِضَةِ، وَالْوِشَايَةِ الْكَاذِبَةِ، يَبْذُلُونَ مَا يَبْذُلُونَ مِنْ طَاقَاتِهِمْ لِحَرْبِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَبَشَّرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالسُّوأَى دُنْيَا وَآخِرَةً {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} لِمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ وَرَأَى خَيْبَةَ الْمَسْعَى، وَلِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ سَيُدْخِلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّارَ تَلَظَّى {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}: وَهَاهُنَا نَلْحَظُ وَيَجِبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْعَطْفُ بِـ(ثُمَّ)، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَجْرَى هَذَا الْقَوْلَ عَلَى سُنَنٍ قَدَّرَهَا، وَسُنَنُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكَوْنِيَّةُ لَا تَتَخَلَّفُ أَبَدًا، {فَسَيُنْفِقُونَهَا}: فَعَقَّبَ بِـ(الْفَاءِ)؛ لِبَيَانِ حِرْصِهِمْ عَلَى سَعَايَتِهِمْ مِنْ أَجْلِ حَرْبِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ نَبِيُّهُ ﷺ، وَأَنْذَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَوَعِّدًا مُتَهَدِّدًا الْمُفَرِّطِينَ الَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى السُّنَنِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَوْنِهِ، وَالَّذِينَ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَجْعَلُونَ مَا لِلْإِسْلَامِ مِنْ نَصْرٍ فِي ذَاتِهِ نَصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِالدِّينِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِطَبَائِعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَوْنِهِ.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّوَلِّي عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، وَعَنْ اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَأَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ- أَنَّهُ فِي حَالَ التَّوَلِّي عَنِ الدِّينِ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْقَهَّارُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ- أَنَّهُ يَسْتَبْدِلُ قَوْمًا غَيْرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا، ثُمَّ لَا يَجْعَلُهُمْ أَمْثَالَهُمْ، بَلْ يَتَمَسَّكُونَ بِدِينِ رَبِّهِمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الذُّلَّ عَنْهُمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَذَلَّةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ دِيَارِهِمْ، وَيَنْصُرُهُمُ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْكَافِرِينَ يَمْكُرُونَ لِهَدْمِ هَذَا الدِّينِ مَكْرَهُمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ إِلَى الْبَوَارِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُحَصِّلُونَ مِمَّا أَرَادُوهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَعُودُونَ بِمِلْءِ قَبْضَةٍ مِنْ ذُبَابٍ، بَلْ وَلَا قَبْضَةٌ مِنْ تُرَابٍ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا0: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وَقَدْ حَاوَلُوا مُنْذُ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَهْدِمُوا مَبَادِئَ هَذَا الدِّينِ، وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ سَعْيَهُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى أَمْرَيْنِ، فَحَارَبُوا الدَّاعِي وَحَارَبُوا الدَّعْوَةَ، حَارَبُوا النَّبِيَّ ﷺ وَآذَوْهُ، وَنَعَتُوهُ بِكُلِّ نَعْتٍ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرٌّ رَاشِدٌ ﷺ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِ عَقْلِ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَرَ الْكُفَّارُ فِي الْخُصُومَةِ مَعَهُ، فَوَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ وَهُوَ سَيِّدُ الْعُقَلَاءِ ﷺ.
وَحَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوا النَّبِيَّ ﷺ بَعْدَ مَا آذَوْهُ مَا آذَوْهُ، وَأُوذِيَ أَتْبَاعُهُ، وَأَشَاعَ الْمُشْرِكُونَ الْإِشَاعَاتِ وَحَارَبُوا النَّبِيَّ ﷺ وَمَنْ أَسْلَمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ وَجَسَدَهُ.
وَوَقَعَ التَّجْوِيعُ وَالِاضْطِهَادُ، وَوَقَعَ التَّعْذِيبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ فِي أَرْضِ اللهِ الْوَاسِعَةِ، وَيُتَتَبَّعَ الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مُهَاجِرِينَ، وَتَذْهَبُ الْوُفُودُ إِلَى مِنْ هُنَالِكَ مِنَ الْمُلُوكِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرَدُّوا أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَتَّلُوا، وَيَنْصُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دِينَهُ، وَيُعْلِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْرَ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَالدِّينُ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلَا تَعْجَبُ فَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ.
((نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ))
إنَّ مَنْ سَبَرَ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ-، وَمَنْ سَبَرَ أَحْوَالَهُمْ؛ وَجَدَ الرَّحْمَةَ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي كَانَتْ تَغْلِبُ غَضَبَهُ، وَلَهُ مِنْهَا الْحَظُّ الْأَوْفَى.
فَإِنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا0: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
وَلَقَدْ تَوَاتَرَتِ النُّصُوصُ مِنْ سِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَمَا جَاءَ عَنْهُ مِنَ الْأَمْرِ بِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى امْتِثَالِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ يَعْسُرُ حَصْرُهُ وَاسْتِقْصَاؤُهُ؛ لِذَلِكَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْدَانُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا0: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]
وَقَدْ شَهِدَ لَهُ ﷺ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ شَهِدَوا لَهُ بِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ.
فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: «خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ -يَعْنِي: فِي صِبَاهُ- فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ.
قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟
فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ حَجَرٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ». الْحَدِيثَ.
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ السِّيرَةِ».
*نَبِيُّنَا ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الرَّحْمَةَ وَالْإِنْسَانِيَّةَ الْحَقَّةَ:
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ سَبَبَ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْحَمَ الْإِنْسَانُ خَلْقَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا0
فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَبْصَرَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.
فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ؛ يَعْنِي السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي «الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ».
فَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الرَّحْمَةِ فِي نَفْسِهِ ﷺ، حَتَّى كَانَتْ دَيْدَنُهُ فِي الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَلِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَلِينِهِ وَرِفْقِهِ؛ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُ الْعِبَادِ وَالْتَفَتَ حَوْلَهُ أَبْدَانُهُمْ، وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ مِنْ أَذَى النَّاسِ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْتَقِمُ، بَلْ وَلَا يَضْجَرُ، فَرَحْمَتُهُ تَسْبِقُ غَضَبَهُ ﷺ.
فَهُوَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ دَاعٍ إِلَى الرَّحْمَةِ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
يَا مَنْ لَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ مَا تَهْوَى الْعُلَا مِنْهَـا وَمَـا يَتَعَشَّقُ الْكُـُبَراءُ
فَإِذَا سَخَوْتَ بَلَغْتَ بِالْجُودِ الْمَدَى وَفَعَلْـتَ مَا لَا تَـفْعَلُ الْبُـذَلَاءُ
وَإِذَا عَفَوْتَ فَقادِرًا وَمُقَــدَّرًا لَا يَستَهِــينُ بِعَفْوِكَ الْجُهَــلَاءُ
وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُحَماءُ
وَإِذَا غَضِبْتَ فَإِنَّما هِيَ غَضْبَةٌ فِي الْحَقِّ لَا ضِغْنٌ وَلَا بَغْضَاءُ
وَإِذَا رَضِيتَ فَذَاكَ فِي مَرْضَاتِهِ وَرِضَا الْكَثِيرِ تَحَلُّمٌ وَرِياءُ
وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هِــزَّةٌ تَعْرُو الْنَدِيَّ وَلِلْقُلُوبِ بُكَاءُ
وَإِذَا قَضَيْتَ فَلَا ارْتِيَابَ كَأَنَّمَا جَاءَ الْخُصُومَ مِنَ السَّمَاءِ قَضَاءُ
وَإِذَا حَمَيْتَ الْمَاءَ لَمْ يُورَدْ وَلَوْ أَنَّ الْقَيَاصِرَ وَالْمُلُوكَ ظِمَاءُ
وَإِذَا أَجَرْتَ فَأَنْتَ بَيْتُ اللهِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ الْمُسْتَجِيرَ عَدَاءُ
وَإِذَا مَلَكْتَ النَّفْسَ قُمْتَ بِبِرِّهَا وَلَوَ اَنَّ مَا مَلَكَتْ يَدَاكَ الشَّاءُ
وَإِذَا بَنَيْتَ فَخَيرُ زَوْجٍ عِشْرَةً وَإِذَا ابْتَنَيْتَ فَدُونَكَ الْآبَاءُ
وَإِذَا صَحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّمًا فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ
وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ
وَإِذَا مَشَيْتَ إِلَى الْعِدا فَغَضَنْفَرٌ وَإِذَا جَرَيْتَ فَإِنَّكَ النَكْبَاءُ
وَتَمُدُّ حِلْمَكَ لِلسَّفِيهِ مُدَارِيًا حَتَّى يَضِيقَ بِعَرضِكَ السُّفَهَاءُ
فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ سُطَاكَ مَهَابَةٌ وَلِكُلِّ نَفْسٍ فِي نَدَاكَ رَجَاءُ
وَالرَّأْيُ لَمْ يُنْضَ الْمُهَنَّدُ دُونَهُ كَالسَّيفِ لَمْ تُضْرب بِهِ الْآرَاءُ
الْحَرْبُ فِي حَقٍّ لَدَيْكَ شَرِيعَةٌ وَمِنَ السُّمُومِ النَّاقِعَاتِ دَوَاءُ
وَالْبِرُّ عِنْدَكَ ذِمَّةٌ وَفَرِيضَةٌ لَا مِنَّةٌ مَمْنُونَةٌ وَجَبَاءُ
جَاءَتْ فَوَحَّدَتِ الزَكاةُ سَبِيلَهُ حَتَّى الْتَقَى الْكُرَمَاءُ وَالْبُخَلَاءُ
أَنْصَفَتَ أَهْلَ الْفَقْرِ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى فَالْكُلُّ فِي حَقِّ الْحَيَاةِ سَوَاءُ
مِنْ كُلِّ دَاعِي الْحَقِّ هِمَّةُ سَيْفِــهِ فَلِسَيفِهِ فِي الرَّاسِيَاتِ مَضَاءُ
سَاقِي الْجَريحِ وَمُطْعِمُ الْأَسْرَى وَمَنْ مِنَتْ سَنَابِكَ خَيْلِهِ الْأَشْلَاءُ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الرِّجَالِ غِلَاظَــةٌ مَا لَمْ تَزِنْهَا رَأْفَةٌ وَسَخَاءُ
وَالْحَربُ مِنْ شَرَفِ الشُّعُوبِ فَإِنْ بَغَوْا فَالْمَجْدُ مِمَّا يَدَّعُونَ بَرَاءُ
وَالْحَـــرْبُ يَبْعَثُهَــا الْقَوِيُّ تَجَبُّرًا وَيَنُوءُ تَحْتَ بَلَائِهَا الضُّعَفاءُ
كَمْ مِنْ غَزَاةٍ لِلرَّسُولِ كَرِيمَةٍ فِيهَا رِضًى لِلْحَقِّ أَوْ إِعْلَاءُ
كَانَتْ لِجُنْــدِ اللهِ فِـيهَا شِـــدَّةٌ فِي إِثْرِهَا لِلْعَالَمِينَ رَخَاءُ
ضَرَبُوا الضَّلَالَةَ ضَرْبَةً ذَهَبَتْ بِهَا فَعَلَى الْجَهَالَةِ وَالضَلَالِ عَفَاءُ
دَعَمُوا عَلَى الْحَرْبِ السَّلَامَ وَطَالَمَا حَقَنَتْ دِمَاءٌ فِي الزَّمَانِ دِمَاءُ
((الْإِسْلَامُ رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ))
*الْأَدِلَّةُ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ، فَضْلًا عَنْ تَكْفِيرِهِمْ وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ:
وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ص كَثِيرٌ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُحَذِّرُ مِنْ أَذِيِّةِ المُسْلِمِينَ، وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ، وَتَعْيِيرِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَتَبَّعُهُمْ لِيُرِيقَ دِمَاءَهُمْ؟!
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } [الأحزاب: 58].
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المِنْبَرَ؛ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ: لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ».
قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ، أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ، وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ».
وَهَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ». أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَفي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «المُسْلمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ».
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الإِشَارَةِ بِالسِّلَاحِ، أَوِ الحَدِيدِ إِلَى المُسْلِمِ، جَادًّا، أَوْ مَازِحًا، أَوْ مُمَثِّلًا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ فَاعِلَهُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ, وَأَنَّ ذَلِكَ مَلْعُونٌ إِذَا فَعَلَ, فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا؟!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ ﷺ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».
فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لَا عَلَى سَبِيلِ الجِدِّ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ المُزَاحِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَلْعُونًا إِذَا أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِالحَدِيدَةِ؛ أي: بِالسِّلَاحِ، وَلَوْ كَانَ مَازِحًا, وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دُخُولِ المَسَاجِدِ، وَالأَسْوَاقِ، وَأَمَاكِنِ تَجَمُّعِ النَّاسِ بِالأَسْلِحَةِ؛ إِذَا كَانَ فِي حَمْلِهَا ضَرَرٌ عَلَى المُسْلِمِينَ, فَكَيْفَ بِمَنْ يُفَخِّخُ نَفْسَهُ، أَوْ يَمْلَأُ سَيَّارَةً بِالمُتَفَجِّرَاتِ، أَوْ بِأَنَابِيبِ الغَازِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى سُوقٍ أَوْ مَجْمَعٍ مِنْ تِلْكَ المَجَامِعِ الَّتِي فِيهَا المُسْلِمُونَ؛ لِكَيْ يَنْسِفَهَا تَحْتَ شِعَارِ الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -وَاللهُ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الأَفْعَالِ، وَدِينُهُ وَرَسُولُهُ؟!
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ قَالَ: فَلْيَأْخُذْ، أَوْ: لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيءٍ». مُتَّفَقٌ عَلَىْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بِنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي المَسْجِدِ، وَمَعَهُ سِهَامٌ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي المَسْجِدِ، قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا؛ فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا؛ كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا».
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ ﭭ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمُصِ قَدَمِهِ؛ فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا, وَذَلِكَ بِمِنًى؛ فَبَلَغَ الحَجَّاجَ؛ فَجَعَلَ يَعُودُهُ -يَعُودُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
فَقَالَ الحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ؟
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنْتَ أَصَبْتَنِي.
قَالَ: وَكَيْفَ؟
قَالَ: حَمَلْتَ السِّلَاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلَاحَ الحَرَمَ، وَلَمْ يَكُنِ السِّلَاحُ يَدْخُلُ الحَرَمَ».
أَخْرَجَهُ البُخَاريُّ فِي «صَحِيحِهِ».
بَلْ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ إِخَافَةِ المُسْلِمِينَ، وَعَنْ إِرْهَابِهِمْ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، مَنْ أَخَافَهَا، فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ ﷺ».
أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالبُخَارِيُّ فِي «التَّارِيخِ الكَبِيرِ», وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَأَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ ظُلْمًا؛ أَخَافَهُ اللهُ». وَالبَاقِي مِثْلُهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ص فَنَامَ رَجُلٌ مِنهُمْ؛ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ -مَعَ النَّائِمِ- فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».
«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِماً», فَكَيْفَ بِقَتْلِهِ؟! فَكَيْفَ بِذَبْحِهِ؟!!
تَأَمَّلْ فِي دِينِكَ، وَدَعْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الحَمْقَى الَّذِينَ يُشَوِّهُونَهُ، الَّذِينَ يُنَفِّرُونَ حَتَّى المُسْلِمِينَ مِنْ دِينِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَمَا أَكْثَرَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَارُوا يَنْظُرُونَ بِعَيْنِ الرِّيبَةِ إِلَى دِينِهِمُ الحَنِيفِ!
بَلْ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ المُسْلِمِينَ، يَقِفُونَ مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ الفَاجِرَةِ إِلَى القَتْلِ وَالذَّبْحِ وِالإِبَادَةِ، وَتِلْكَ الدَّعْوَاتِ الفَاجِرَةِ إِلَى الِانْحِلَالِ وَالِانْعِتَاقِ مِنْ كُلِّ دِينٍ وَمِلَّةٍ.
وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَبَدًا، وَلَكِنْ هُوَ فِعْلُ طَائِفَةٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى دِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ, حَتَّى إِنَّ الآخَرِينَ تَنَاسَوْا مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، وَنَسُوا تِلْكَ المَجَازِرَ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى المُسْلِمِينَ بِأَيْدِيهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ، وَصَارُوا يُذيعُونَ: إِنَّ الإِسْلَامَ دِينُ إِرْهَابٍ، وَذَبْحٍ، وَقَتْلٍ، وَإِبادَةٍ، وَتَخْرِيبٍ!!
فَيَا تُرَى أَيْنَ الحُرِّيَّةُ؟!
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ التَّشْنِيعَ عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ, دَعَا رَبَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَ الأُمَّةِ بَيْنَهَا؛ فَمَنَعَهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَمْ يُجِبْهَا، هَذِهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي دَعَاهَا الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
هَذِهِ الأُمَّةُ مَحْمِيَّةٌ مَحْرُوسَةٌ, وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيهَا مَنْ بِأَقْطَارِهَا؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُسْتَأْصَلَ شَأْفَتُهَا، وَلَا أَنْ تُسْتَبَاحَ بَيْضَتُها، صَحِيحٌ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الأَطْرَافِ فِي الأُمَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مَا يَسُوءُ؛ وَلَكِنَّ الأُمَّةَ مَحْرُوسَةٌ مَحْفُوظَةٌ بِحِفْظِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ «وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيهَا مِنْ غَيْرِهَا مَنْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهَا وَيَسْتَأْصِلُ شأْفَتَهَا؛ فَأَعْطَانِيهَا، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيهَا مَنْ بِأَقْطَارِهَا, وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهَا بَيْنَهَا؛ فَمَنَعَنِيهَا حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً, وَحَتَّى يَسْبِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً»، كَمَا فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.
أَعْدَاءُ هَذَا الدِّينِ يَأْخُذُونَ مِنْ أَفْعَالِ الخَوَارِجِ مَا يَجْعَلُونَهُ حُجَّةً لِمُوَاطِنِيهِمْ، وَحُجَّةً عَلَى المُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ.
((الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ: أَنَّ الْإِسْلَامِ دِينُ اسْتِرْقَاقٍ لِلْأَحْرَارِ))
تَأَمَّلْ -مَثَلًا- فِيمَا يُشنِّعُونَ بِهِ عَلَى الإِسْلَامِ العَظِيمِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالرِّقِّ، فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ دِينَ الإِسْلَامِ العَظِيمِ هُوَ دِينُ اسْتِرْقَاقٍ لِلْأَحْرَارِ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الفِرَى النَّجِسَةِ الَّتِي يَفتَرُونَهَا عَلَى دِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ.
تَأَمَّلْ فِي أَحْوَالِهِمْ هُمْ؛ فَإِنَّ مِنْ حَقِّ الإِنْسَانِ أَنْ يَسْأَلَ -وَهُوَ فِي عَصْرِ النَّهْضَةِ وَالتَّقَدُّمِ- عَنْ رَائِدَةِ التَّقَدُّمِ فِي هَذَا العَصْرِ -عَنْ أَمِرِيكَا، وَكَذَلِكَ عَنْ أُورُبَّا-: مَاذَا صَنَعُوا بِالرَّقِيقِ؟!
عِنْدَمَا اتَّصَلَتْ أُورُوبَّا بِإِفْرِيقِيَّةَ السَّوْدَاءِ، كَانَ هَذَا الاتِّصَالُ مَأْسَاةً إِنْسَانِيَّةً، تَعَرَّضَ فِيهَا زُنُوجُ هَذِهِ القَارَّةِ لِبَلَاءٍ عَظِيمٍ طِوَالَ خَمْسَةِ قُرُونٍ، لَقَدْ نُظِّمَتْ فِي دُوَلِ أُورُوبَّا -بَعْدَمَا تَفَتَّقَتْ عَقْلِيَّتُهَا- نُظِّمَتْ طُرُقٌ وَحْشِيَّةٌ خَبِيثَةٌ فِي اخْتِطَافِ هَؤُلَاءِ وَاسْتِجْلَابِهِمْ إِلَى بِلَادِهِمْ؛ لِيَكُونُوا وَقُودَ نَهْضَتِهَا؛ وَلِيُكَلِّفُوهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَحِينَمَا اكْتُشِفَتْ (أَمِرِيكَا)، زَادَ البَلَاءُ؛ لِيَنُوءُوا بِعِبْءِ الخِدْمَةِ فِي قَارَّتَيْنِ بَدَلًا مِنْ قَارَّةٍ وَاحِدَةٍ.
مَا ذَنْبُهُمْ؟! اسْوِدَادُ بَشَرَتِهِمْ!!
مَنِ الَّذِي خَلَقَهُمْ؟!
الَّذِي خَلَقَ البِيضَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السُّودَ؛ فَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ؟!
دِينُ الإِسْلَامِ العَظِيمُ يَقُولُ: لَا مَزِيَّةَ لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ، وَأَنَّ الَّذِي يُمَيِّزُ هَذَا مِنْ هَذَا: التَّقْوَى، وَلَرُبَّ عَبْدٍ حَبَشِيٍّ يَسْبِقُ سَيِّدًا شَرِيفًا قُرَشِيًّا.
فَأَيْنَ أَبُو لَهَبٍ؟! فِي النَّارِ.
وَأَيْنَ بِلَالٌ؟! يَسْبِقُ النَّبِيَّ ص؛ أَيْ: يَسِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الجَنَّةِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَمَاذَا عِنْدَهُمْ مِنْ أُصُولِ هَذَا التَّحَضُّرِ وَالتَّمَدُّنِ الإِسْلَامِيِّ العَظِيمِ؟!
لَيْسَ عِنْدَهُمْ سِوَى الوَحْشِيَّةِ، سِوَى القَتْلِ بِدَمٍ بَارِدٍ.
تَقُولُ «دَائِرَةُ المَعَارِفِ البِرِيطَانِيَّةُ» فِي الجُزْءِ الثَّانِي فِي الصَّفْحَةِ التَّاسِعَةِ وَالسَّبْعِينَ بَعْدَ السَّبْعِمِئَةِ: «إِنَّ اصْطِيَادَ الرَّقِيقِ مِنْ قُرَاهُمْ المُحَاطَةِ بِالأَدْغَالِ, كَانَ يَتِمُّ بِإِيقَادِ النَّارِ فِي الهَشِيمِ الَّذِي صُنِعَتْ مِنْهُ الحَظَائِرُ المُحِيطَةُ بِالقَرْيةِ؛ حَتَّى إِذَا نَفَرَ أَهْلُ القَرْيَةِ إِلَى الخَلَاءِ؛ تَصَيَّدَهُمُ الإِنْجِلِيزُ بِمَا أَعَدُّوا لَهُمْ مِنْ وَسَائِلَ.
وَعَدَا مَنْ كَانُوا يَمُوتُونَ بِسَبَبِ طُرُقِ الِاصْطِيَادِ هَذِهِ، وَفِي الطَّرِيقِ إِلَى الشَّوَاطِئِ الَّتِي تَرْسُو عَلَيهَا مَرَاكِبُ الشَّرِكَةِ الإِنْجِلِيزِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ ثُلُثَ البَاقِينَ يَمُوتُونَ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الطَّقْسِ، وَيَمُوتُ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ بِالمِئَةِ أَثْنَاءَ الشَّحْنِ –كَشَحْنِ البَهَائِمِ- وَيَمُوتُ اثْنَا عَشَرَ بِالمِئَةِ أَثْنَاءَ الرِّحْلَةِ، فَضْلًا عَمَّنْ يَمُوتُونَ فِي المُسْتَعْمَرَاتِ».
هَلْ صَنَعَ الإِسْلَامُ ذَلِكَ فِي البِلَادِ المَفْتُوحَةِ؟!
الجَوَابُ: لَا، بَلْ إِنَّهُ احْتَرَمَ إِنْسَانِيَّةَ الخَلْقِ، وَلَمْ يُرْفَعِ السَّيْفُ إِلَّا لِأَجْلِ إِزَاحَةِ الأَنْظِمَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَسَمَاعِ كَلِمَةِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لَا لِتُغْمَدَ السُّيُوفُ فِي قُلُوبِ أَفْرَادِ الشُّعُوبِ المَفْتُوحَةِ؛ لِذَلِكَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا بِلَا ضَغْطٍ كَانَ.
إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ.
إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ الأَعْرَاقِ، وَلَا عَلَى حَسَبِ أَلْوَانِ بَشَرَاتِهِمْ.
لَا يُفَرِّقُ الإسْلَامُ العَظِيمُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ مَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا الإِكْرَامُ وَالتَّكْرِيمُ عَلَى حَسَبِ التَّقْوَى، { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحُجُرات: 13]، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا.
فَدِينُ الإِسْلَامِ العَظِيمُ يُقدِّمُ مَنْ تَمَلَّكَ المُؤَهِّلَاتِ وَالمُقَوِّمَاتِ الَّتِي تُقَدِّمُهُ, لَا يَنْظُرُ إِلَى لَوْنٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى بَلَدٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْمِيَّةٍ.
*نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ قَتْلِ النَّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ, وَالْأُجَرَاءِ وَالأَبْرِيَاءِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُرُوبِ:
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى فِي الحُرُوبِ عَنْ قَتْلِ النَّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ, وَعَنْ قَتْلِ الأُجَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الأَبْرِيَاءِ مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ بِالمُسْلِمِينَ؟!
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ﷺ مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللهِ ﷺ ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ ص عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». مُتَّفَقٌ عَليهِ.
وَعَنْ رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ المُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا؛ حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى رَاحِلَتِهِ؛ فَانْفَرَجُوا عَنْهَا؛ فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ ص فَقَالَ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ!»، فَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا، فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، وَلَا عَسِيفًا».
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ بِشَوَاهِدِهِ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ: «لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا عَسِيفًا»، وَالْعَسِيفُ: هُوَ الأَجِيرُ.
هَذَا دِينُ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ مُحَمَّدًا ص.
وَأَمَّا الآخَرُونَ: فَعَنْ أَيِّ دِينٍ يَصْدُرُونَ؟!
إِنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الآمِنِينَ!
إِنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الرِّجَالَ مِنَ الشُّيُوخِ وَالزَّمْنَى!
وَيَقْتُلُونَ العَجَائِزَ وَالنِّسَاءَ!
وَيَقْتُلُونَ الأَطْفَالَ!
بَلْ إِنَّهُمْ يَبْقُرُونَ البُطُونَ؛ لِاسْتِخْرَاجِ الذَّهَبِ المُبْتَلَعِ -بِزَعْمِهِمْ- كَمَا فَعَلُوا فِي بَيْتِ المَقْدِسِ!
فَمَا هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ إِذَنْ؟!
هُوَ دِينُ مُحَمَّدٍ ﷺ، رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ، وَرَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ.
مَا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِظُلْمٍ، وَلَا عَسْفٍ، وَلَا جَوْرٍ، حَاشَاهُ ﷺ.
لَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالأَطْفَالِ وَالشُّيُوخِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي العَالِيَةِ: «المُرَادُ بِذَلِكَ: النَّهْيُ عَنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ».
وَعَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: «المُرَادُ بِذَلِكَ: النَّهْيُ عَنِ ارْتِكَابِ المَنَاهِي مِنَ المُثْلَةِ، والغُلُولِ، وَقَتْلِ النِّسَاءِ وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى القِتَالِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الرُّهْبَانِ، وَتَحْرِيقِ الأَشْجَارِ، وَقَتْلِ الحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ».
قَالَ القُرْطُبِيُّ: «وَلِي عَلَيهِ مِنَ النَّظَرِ: أَنَّ قَاتَلَ (فَاعَلَ) لَا يَكُونُ فِي الغَالِبِ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ كَالمُقَاتَلَةِ وَالمُشَاتَمَةِ وَالمُخَاصَمَةِ، وَالقِتَالُ لَا يَكُونُ فِي النِّسَاءِ وَلَا فِي الصِّبْيَانِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ؛ كَالرُّهْبَانِ وَالزَّمْنَى وَالشُّيُوخِ، فَلَا يُقَاتَلُونَ».
وَفي الآيَةِ نَهْيٌ مُطْلَقٌ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ عَنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقاتِلْ؛ مِنَ النِّسَاءِ، وَالأَوْلَادِ، وَالُّشيُوخِ، وّالرُّهْبَانِ، وَكَذَلِكَ أَفَادَتِ الآيَةُ بِمَفْهُومِ المُخَالَفَةِ -وَهُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ عِنْدَ غَيْرِ الأَحْنَافِ- عَدَمَ قَتْلِ مَنْ لَمْ يَقَاتِلْنَا كَالمَرْضَى وَالصِّغَارِ والنِّسَاءِ.
قَالَ النَّوَوَيُّ: «أجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلُوا».
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ: «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ».
وَأَخْرَجَ مِالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ أَخْبَرَهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّفَرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَبَا الحُقَيْقِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ».
كَتَبُوا أَيْضاً: «لَا يَقْتُلُ الْأَعْمَى وَالزَّمْنَى، وَلَا الرَّاهِبَ، وَلَا العَبْدَ، وَلَا يَقْتُلُ -المُجَاهِدُ- الفَلَّاحِينَ، وَلَا الصُّنَّاعَ».
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وَلَا تَعْتَدُواْ، يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ، وَالصِّبْيَانَ، وَالشَّيْخَ الكَبِيرَ, وَلَا يُقْتَلُ الزَّمْنَى، وَلَا الْأَعْمَى، وَلَا الرَّاهِبُ، وَلَا يُقْتَلُ العَبْدُ».
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَدْرِكُوا خَالِدًا فَمُرُوهُ أَلَّا يَقْتُلَ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفاً»؛ وَهُمُ العَبِيدُ.
قَالَ مَالِكٌ: «لَا يُقْتَلُ النِّسَاءُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالشَّيْخُ الكَبِيرُ, وَالرُّهْبَانُ المَحْبُوسُونَ فِي الصَّوَامِعِ وَالدَّيَّارَاتِ».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِذَا ظَفَرَ بِالكُفَّارِ؛ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ صَبِيٍّ لَمْ يَبْلُغْ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ، وَلَا هَرِمٌ وَلَا شَيْخٌ فَانٍ، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ».
أَمَّا الفَلَّاحُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاتَلَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا اللهَ فِي الفَّلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يُنَاصِبوُنَكُمُ الحَرْبَ».
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: «لَا يُقْتَلُ الحُرَّاثُ».
هَذَا كُلُّهُ في القِتَالِ مَعَ الكُفَّارِ، فَكَيْفَ بِالقِتَالِ مَعَ المُسْلِمِينَ؟!
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: «لَا يَجُوزُ، مِثْلَ مَنْ كَانَ مُتَخَلِّيًا لِلْعِبَادَةِ مِنَ الكُفَّارِ كَالرُّهْبَانِ؛ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ ضَرَرِ المُسْلِمِينَ».
وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ «الهِدَايَةِ» الحَنَفِيُّ: «لَا يَقْتُلُوا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا مُقْعَدًا، وَلَا أَعْمَى؛ لِأَنَّ المُبِيحَ لِلْقَتْلِ عِنْدَنَا هُوَ الحَرْبُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ يَابِسُ الشِّقِّ -بِأُسْلُوبِهِ وَمُصْطَلَحِهِ فِي عَصْرِهِ، يَعْنِي: مَنْ كَانَ مُصَابًا بِالشَّلَلِ النِّصْفِيِّ؛ فَهُوَ يَابِسُ الشِّقِّ-؛ فَلَا يُقْتَلُ يَابِسُ الشِّقِّ، وَالمَقْطُوعُ اليُمْنَى، وَالمقْطُوعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَلَا يَقْتُلُوا مَجْنُونًا».
وَالمَشْهُورُ عِنْدَ المَالِكِيَّةِ: أَنَّ الصُّنَّاعَ لَا يُقْتَلُونَ.
فَحُرْمَةُ قَتْلِ المَدَنِيِّينَ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ المُقَاتَلَةِ وَالمُمَانَعَةِ، مِمَّا قَرَّرَهُ هَذَا الدِّينُ الحَنِيفُ؛ لِأَنَّ العُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ قِتَالِ المُشْرِكِينَ: هَلْ هِيَ الكُفْرُ، أَوْ هِيَ الانْتِصَابُ لِلْقِتَالِ؟!
أَمَّا الجُمْهُورُ فَيَرَوْنَ العِلَّةَ: الانْتِصَابَ لِلْقِتَالِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ العِلَّةَ: هِيَ الكُفْرُ.
فَإِذَا نَظَرْنَا فِي قَوْلِ الجُمْهُورِ وَجَدْنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ العِلَّةُ: الكُفْرَ, فَإِنَّ هَذِهِ العِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِي النِّسَاءِ، وَالرُّهْبَانِ، وَالشُّيُوخِ، وَالزَّمْنَى، وَالأَعْمى، وَهَؤُلَاءِ وَرَدَتِ النُّصُوصُ بِمَنْعِ قَتْلِهِمْ فِي الحَرْبِ -كَمَا مَرَّ-.
وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الجُمْهُورِ:
- قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عِنْدَمَا مَرَّ عَلَى المَرْأَةِ المَقْتُولَةِ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ»، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ص عِلَّةَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا أَنَّهَا لَا تُقاتِلُ, وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةُ قَتْلِ الكُفَّارِ كُفْرَهُمْ؛ لَأَمَرَ النَّبِيُّ ص بِقَتْلِهَا؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ.
- وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «اتَّقُوا اللهَ فِي الفَلَّاحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الحَرْبَ»، فَجَعَلَ عِلَّةَ عَدَمِ قَتْلِهِمْ: أَنَّهُمْ لَا يُشَارِكُونَ فِي الحَرْبِ.
فَكُلُّ الأَصْنَافِ السَّابِقَةِ المَنْهِيِّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ وَالزَّمْنَى وَالرُّهْبَانِ؛ كُلُّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ, هِيَ عَدَمُ مُشَارَكَتِهِمْ فِي القِتَالِ، وَعَدَمُ انْتِصَابِهِمْ لَهُ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَإِذَا كَانَ أَصْلُ القِتَالِ المَشْرُوعِ الجِهَادَ، وَمَقْصُودُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العَلَيا؛ فمَنْ مَنَعَ هَذَا قُوتِلَ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ, وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ المُمَانَعَةِ وَالمُقَاتَلَةِ كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالرَّاهِبِ، وَالشَّيْخِ الكَبِيرِ، وَالأَعْمَى، وَالزَّمْنَى، وَنَحْوِهِمْ؛ فَلَا يُقْتَلُونَ عِنْدَ الجُمْهُورِ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى إِبَاحَةَ قَتْلِ الجَمِيعِ؛ لِمُجَرَّدِ الكُفْرِ إِلَّا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَالأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ -يَعْنِي: قَوْلَ الجُمْهُورِ- لِأَنَّ القِتَالَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ يُقَاتِلُنَا؛ إِذَا أَرَدْنَا إِظْهَارَ دِينِ اللهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَبَاحَ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي صَلَاحِ الخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، أَيْ أَنَّ القَتْلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ وَفَسَادٌ؛ فَفِي فِتْنَةِ الكُفَّارِ مِنَ الشَّرِّ وَالفَسَادِ مَا هُوَ أَكْبَرُ، فَمَنْ لَمْ يَمْنَعِ المُسْلِمِينَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِ اللهِ، لَمْ تَكُنْ مَضَرَّةُ كُفْرِهِ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ». انْتَهَى كَلَامُ شَيْخِ الإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-.
إِذَنْ: بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ المَدَنِيِّينَ الَّذِينَ لَا يُشَارِكُونَ فِي القِتَالِ، وَلَا يَنْصِبُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَيْهِ.
لَيْسَ هُنَالِكَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ قَانُونٌ يُبِيحُ قَتْلَ المَدَنِيِّينَ -فَضْلًا عَنْ دِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ-.
*نَهْيُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالْجُثَثِ:
وَلَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِجُثَثِ القَتْلَى.
فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً يَقُولُ لَهُمْ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».
أَخْرَجَهُ مَالِكٌ بَلَاغًا، وَيَشْهَدُ لَهُ: عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ﭭ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا».
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي «صَحِيحِهِ»: «اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا».
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا النَّهْيُ عَنِ المُثْلَةِ».
وَقَالَ: «لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ كَافِرٍ حَالَ قِيَامِ الحَرْبِ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُمَثِّلَ بِهِ».
وَالتَّمْثِيلُ: قَطْعُ الأَطْرَافِ أَوِ الآذَانِ وَالأَنْفِ، هُوَ تَشْوِيهُ جُثَّةِ القَتِيلِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِالرُّءُوسِ؛ لِيَلْعَبُوا بِهَا الكُرَةَ!!
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ رُءُوسِ المُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ, وَلَا يَجُوزُ المُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ؛ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ص يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنِ المُثْلَةِ»».
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ: «أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِرَأْسِ البَطْرِيقِ؛ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ.
فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، إِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا -يَعْنِي: يَقْطَعُونَ رُءُوسَ المُسْلِمِينَ وَيَنْقُلُونَهَا- فَاحْتَجَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِهَذِهِ الحُجَّةِ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، إِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا.
قَالَ: فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ؟! لَا يُحْمَلْ إِلَيَّ رَأْسٌ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِي الكِتَابُ وَالخَبَرُ».
قَالَ الزُّهْرِيُّ: «لَمْ يُحْمَلْ إِلَى النَّبِيِّ ص رَأْسٌ قَطُّ، وَحُمِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَأْسٌ فَأَنْكَرَهُ, وَيُكْرَهُ رَمْيُهَا فِي المَنْجَنِيقِ».
يَعْنِي: أَنْ يُوضَعَ فِي شِبْهِ المِدْفَعِ كَمَا كَانَ قَدِيمًا، وَيُجْعَلَ مَكَانَ الحِجَارَةِ لِيُرْمَى بِهِ الأَعْدَاءُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُلْعَبَ بِهِ الكُرَةُ، كَمَا هُوَ وَاقِعٌ وَمَشْهُودٌ.
*لَا يُقَاتَلُ الكُفَّارُ وَالمُشْرِكُونَ قَبْلَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ:
لَا يُقَاتَلُ الكُفَّارُ وَالمُشْرِكُونَ قَبْلَ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ؛ فَعَنْ بُرَيْدَةَ ﭬ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ؛ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَقَالَ لَهُ: «إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ؛ فَأَيَّتُهَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا؛ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ؛ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ؛ يُدْعَى قَبْلَ القِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ الدُّعَاءِ».
قَالَ الشِّيرَازِيُّ كَمَا فِي «المُهَذَّبِ»: «فَإِنْ كَانَ العَدُوُّ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ؛ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمُ الإِسْلَامُ قَبْلَ العِلْمِ، وَالدَّليِلُ عَلَيهِ قَوْلُ اللهِ ﻷ: { وَمَا كُنَّامُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُمْ».
قَالَ الخِرَقِيُّ: «وَيُدْعَى عَبَدَةُ الأَوْثَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَارَبُوا».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الشَّرْحِ»: «إِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، دُعِيَ قَبْلَ القِتَالِ، وَكَذَلِكَ إِنْ وُجِدَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، دُعِيَ قَبْلَ قِتَالِهِ».
((رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَرِيعَتِهِ حَتَّى بِالْحَيَوَانَاتِ))
الْإسْلَامُ دِينُ الرَّحْمَةِ، إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَقْبَل أَنْ تُحْرَقَ قَرْيَةُ النَّمْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ «لَا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللهِ إِلَّا اللهُ».
إنَّ النَّبيَّ ﷺ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَنْزِلَ الْعِقَابَ بِغَيْرِ النَّمْلَةِ الْجَانِيَةِ، فَأَخْبَرَ: «أَنَّ نَبيًّا نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَقَرَصَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِمَتَاعِهِ أنْ يُنْقَلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَرْقِ قَرْيَةِ النَمْلِ، فقَاَلَ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً -يَعْنِي: عَاقِبْ الَّتِي قَرَصَتْكَ-، أَهْلَكْتَ أُمَّةً تُسَبِّحُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا0 لأنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْكَ».
هَذَا هُوَ نَّبِيُّكُمْ ﷺ.
لَا شَكَّ أَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الدِّينِ وَالْإِرْهَابِ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ، كَيْفَ لِدِينٍ يَجْعَلُ فِي كِتَابِهِ الْخَالِدِ عُقُوبَةً وَحَدًّا لِلْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْإرْهَابِ؟!!
كَيْفَ لِدِينٍ جَاءَ رَحْمَةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا0: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أَنَّ يُقِرَّ تَرْوِيعَ الْآمِنِينَ أَوْ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمَدَنِيِّينَ؟!!
قَالَ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»، إنَّهُ دِينُ الرَّحْمَةِ، الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ التي تَشْمَلُ كُلَّ الْأَحْيَاءِ.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فسَقَتِ الْكَلْبَ- فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ دِينٍ يَرْحَمُ رَبُّهُ مَنْ رَحِمَتْ كَلْبًا، وَهِيَ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ دِينٍ يَرْحَمُ مَنْ أَنْزَلَهُ مَنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لِرَحْمَتِهَا كَلْبًا أَنَّ يُتَّهَمَ بِأَنَّهُ لَا يَحُثُّ عَلَى رَحْمَةِ الْإنْسَانِ؟!!
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضَ»؛ أَيْ: مِنْ هَوَامِّهَا، هَذِهِ امْرَأَةٌ يُعذِّبُهَا اللهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْحَمْ هَذَا الْحَيَوَانَ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَرْحَمْ إِنْسَانًا مِنْ بَنِي آدَمَ؟!
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلَّذِي كَانَ يَذْبَحُ شَاةً وَأُخْتُهَا تَنْظُرُ إليْهَا: «أنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ، تُرِيدُ أنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ».
((دِينُ اللهِ هُوَ دِينُ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ))
عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيْحَتَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالْقِتْلَةَ وَالذِّبْحَةَ بِالْكَسْرِ: أَيِ الْهَيْئَةُ، وَالْمَعْنَى: أَحْسِنُوا هَيْئَةَ الذَّبْحِ، وَهَيْئَةَ الْقَتْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِسْرَاعِ فِي إِزْهَاقِ النُّفُوسِ الَّتِي يُبَاحُ إِزْهَاقُهَا عَلَى أَسْهَلِ الْوُجُوهِ.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ...)) ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ الْإِحْسَانَ، فَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ أَوْ كُلُّ مَخْلُوقٍ هُوَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ، وَالْمَكْتُوبُ هُوَ الْإِحْسَانُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ كَتَبَ الْإِحْسَانَ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَيَكُونُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ الْمُحْسَنُ إِلَيْهِ؛ وَلَفْظُ (الْكِتَابَةِ): ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ...)) يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لَبِعَضْهِمْ، وَإِنَّمَا يُعرَفُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْكِتَابَةِ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ حَتْمٌ إِمَّا شَرْعًا و إِمَّا قَدَرًا.
فَفِي الشَرْعِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [الْبَقَرَةِ:182]، وَأَمَّا مَا هُوَ وَاقِعٌ قَدَرًا لَا مَحَالَةَ، كَقَوْلِهِ {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [الْمُجَادَلَةِ: 21], وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ: ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ)) أَيْ: أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ شَرْعًا وَدِينًا، وَالْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ ﷺ: ((كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا، فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ)). وَهَذَا قَدَرًا وَكَوْنًا، لَا دِينًا وَلَا شَرْعًا، وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَحِينَئِذٍ؛ فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْإِحْسَانِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْلِ:90], وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا0: {وأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 195]؛ وَهَذَا الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ تَارَةً يَكُونُ لِلْوُجُوبِ كَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَرْحَامِ بِمِقْدَارِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ، وَتَارَةً يَكُونُ لِلنَّدْبِ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَنَحْوِهَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَكِنْ إِحْسَانُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ:
*فَالْإِحْسَانُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِ كَمَالِ وَاجِبَاتِهَا، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِحْسَانِ فِيهَا وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِيهَا بِإِكْمَالِ مُسْتَحَبَّاتِهَا فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَالْإِحْسَانُ فِي تَرْكِ الْمحُرُمَاتِ: الِانْتِهَاءُ عَنْهَا، وَتَرْكُ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا0: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الْأَنْعَامِ: 120], فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِحْسَانِ فِيهَا وَاجِبٌ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ: فَأَنْ يَأْتِيَ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَسَخُّطٍ وَلَا جَزَعٍ.
وَالْإِحْسَانُ الْوَاجِبُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ وَمُعَاشَرَتِهِمْ: الْقِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْإِحْسَانُ الْوَاجِبُ فِي وِلَايَةِ الْخَلْقِ وَسِيَاسَتِهِمْ، الْقِيَامُ بِوَاجِبَاتِ الْوِلَايَةِ كُلِّهَا، وَالْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَالْإِحْسَانُ فِي قَتْلِ مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ: إِزْهَاقُ نَفْسِهِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَأَسْهَلِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي التَّعْذِيبِ، فَإِنَّهُ إِيلَامٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ؛ وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إِلَى بَيَانِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي الذَّبِيحَةِ، وَأَسْهَلُ وُجُوهِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى الْعُنُقِ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي القرآنِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [مُحَمَّدٍ:4].
ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَ صَبْرِ الْبَهَائِمِ: أَنْ تُحْبَسَ الْبَهِيمَةُ، ثُمَّ تُضْرَبَ بِالنَّبْلِ وَنَحْوِهِ حَتَّى تَمُوتَ، هَذَا مَنْهِيٌ عَنْهُ.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا - يَعْنِي: بِالسِّهَامِ -، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا))، أَيْ: هَدَفًا يُرْمَى، يُتَعَلَّمُ فِيهِ الرَّمْيُ أَوْ مَا أَشْبَهَ.
وَالْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)).
الْغَرَضُ: الَّذِي يُرْمَى فِيهِ بِالسِّهَامِ.
فدِينُ مُحَمَّدٍ ص رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ، وَرَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ.
((شَهَادَاتُ الْمُنْصِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ
لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالرَّحْمَةِ))
وَهَذِهِ شَهَادَاتٌ لِرِجَالٍ غَرْبِيِّينَ مُسْتَشْرِقِينَ بَاحِثِينَ فِي حَضَارَةِ الْإِسْلَامِ لَا يُشَكُّ فِي تَحَيُّزِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ يَنْطِقُ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مَا فِيهِ.
قَالَ (لِيبرِي) فِي كِتَابِهِ ((رُوحُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ صـ 270)): ((وَالْمُنْصِفُ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْهَرِ الْعَرَبُ عَلَى مَسْرَحِ التَّارِيخِ لَتَأَخَّرَتْ نَهْضَةُ أُورُوبَّا الْحَدِيثَةِ عِدَّةَ قُرُونٍ)).
وَهَذِهِ شَهَادَةُ الْمُسْتَشْرِقِ الْغَرْبِيِّ (جُوستَاف لُوبُون) : الَّذِي تَمَنَّى لَوْ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَوْلَوْا عَلَى فَرَنْسَا لِتَغْدُوَ بَارِيسُ مِثْلَ قُرْطُبَةَ فِيْ إِسْبَانيَا، مَرْكَزًا لِلْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ، حَيْثُ كَانَ رَجُلُ الشَّارِعِ فِي قُرْطُبَةَ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ وَيَقْرِضُ الشِّعْرَ أَحْيَانًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مُلُوكُ أُورُوبَّا لَا يَعْرِفُونَ كِتَابَةَ أَسْمَائِهِمْ، وَيَبْصُمُونَ بِأَخْتَامِهِمْ.
وَيُضِيفُ (لُوبُون) -سَاخِرًا مِمَّنْ يُقَارِنُ الْعَرَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى بِالْأُورُوبِّيِّينَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ-: ((قَدْ كَانَ الْوَضْعُ عَلَى عَكْسِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ تَمَامًا؛ الْعَرَبُ هُمُ الْمُتَحَضِّرُونَ وَالْأُورُوبِّيُّونَ هُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّنَا -هَذَا كَلَامُهُ- نُسَمِّي تَارِيخَ أُورُوبَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْعُصُورَ الْمُظْلِمَةَ)).
إِنَّ الْعَهْدَ الذَّهَبِيَّ لِأُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ فِيمَا سُمِّيَ بِالْعُصُورِ الْوُسْطَى حَيْثُ كَانَ الْكِتَابُ يُوزَنُ بِالذَّهَبِ، وَحِينَمَا مَلَكَ أَجْدَادُنَا نَاصِيَةَ الْعِلْمِ مَلَكُوا نَاصِيَةَ الْعَالَمِ.
لِذَلِكَ قَالَ (نِيكِلْسُون):
((وَمَا الْمُكْتَشَفَاتُ الْيَوْمَ لِتُعَدَّ شَيْئًا مَذْكُورًا بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا نَدِينُ بِهِ لِلرُّوَّادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبَسًا مُضِيئًا لِظَلَامِ الْعُصُورِ الْوُسْطَى فِي أُورُوبَّا)).
وَلِذَلِكَ أَيْضًا قَالَ (هَالْمِيَارد) فِي كِتَابِهِ ((الْكِيميَاءُ حَتَّى عَصْرِ نِيُوتِن - فِي الصَّفْحَةِ الْعَاشِرَةِ)) -بَعْدَ أَنْ عَدَّدَ فَضْلَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّطْبِيقَاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِلْكِيميَاءِ الْعَمَلِيَّةِ- قَالَ:
((لِكُلِّ هَذِهِ الْخِبْرَاتِ الَّتِي حَقَّقَهَا لَنَا الْبَاحِثُونَ الْمُسْلِمُونَ دَعْنَا نُقَدِّمُ فُرُوضَ الْوَلَاءِ وَالتَّقْدِيرِ لِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)).
يَقُولُ (جِيبُول) فِي كِتَابِهِ ((عَنِ اضْمِحْلَالِ وَسُقُوطِ الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ)):
((مِنَ الطَّبِيعِيِّ وَنُزُولًا عَلَى مُقْتَضَيَاتِ قَانُونِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي لَا جِدَالَ فِيهَا؛ أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ الْحَقَّ فِي أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِ، وَأَنْ تَصِلَ مُقْتَضَيَاتُ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِلَى كُلِّ الْآفَاقِ الْمَعْقُولَةِ الَّتِي تُوَفِّرُ لَهُ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ وَالْقُدْرَةَ عَلَى رَدِّ الْأَعْدَاءِ عَنْ مَوْطِنِهِ)).
إِنَّ جِهَادَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وَانْتِصَارَهُ عَلَى جُيُوشِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ الْأَشْرَارِ قَدْ جَعَلَتْ مُحَرِّرِي ((دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْبِرِيطَانِيَّةِ)) يُعْلِنُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- هُوَ أَعْظَمُ الشَّخْصِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ نَجَاحًا فِي التَّارِيخِ -فَهَذَا كَلَامُهُمْ-.
كَيْفَ يَحِقُّ إِذَنْ لِخُصُومِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَعْتَبِرُوا أَنَّ انْتِصَارَاتِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ لَهَا أَيُّ هَدَفٍ أَوْ أَيُّ قِيمَةٍ سِوَى أَنَّهَا قَدْ أَتَاحَتْ لَهُ أَنْ يَنْشُرَ دِينَهُ الْإِسْلَامِيَّ اعْتِمَادًا عَلَى السَّيْفِ، وَغَلَبَتِ الْجُيُوشَ وَالرِّمَاحَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ؟
هَلْ فَرَضَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْإِسْلَامَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ بِأَنْ قَطَعَ رِقَابَ النَّاسِ؟!
الْمُسْلِمُونَ كُثُرٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْبِلَادِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ بِقَطْعِ رِقَابِ النَّاسِ؟!
يَقُولُ (دِي لَاسِي أُولِيرِي) مَا نَصُّهُ:
((إِنَّ التَّارِيخَ يُؤَكِّدُ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالًا لَأَيِّ شَكٍّ أَنَّ خُرَافَةَ الِاجْتِيَاحِ الْبَرْبَرِيِّ لِمِسَاحَاتٍ شَاسِعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِجْبَارِ النَّاسِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ فَوْقَ رِقَابِ الشُّعُوبِ الْمَغْلُوبَةِ عَلَى أَمْرِهَا؛ إِنَّمَا هِيَ خُرَافَةٌ خَيَالِيَّةٌ مُضْحِكَةٌ عَارِيَةٌ تَمَامًا مِنَ الصِّحَّةِ وَبَعِيدَةٌ كُلَّ الْبُعْدِ عَنِ الْحَقِيقَةِ عَلَى نَحْوٍ نَادِرِ الْمِثَالِ فِي دُنْيَا التَّارِيخِ وَفِي عَالَمِ الْمُؤَرِّخِينَ)).
كِتَابُ ((الْإِسْلَامُ فِي مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ - لَدَي لَاسِي أُولِيرِي طَبْعَةُ لَنْدَن سَنَةَ 1923 الصَّفْحَةُ 8))
وَلَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَكُونَ مُؤَرِّخِينَ مِثْلَ (أُولِيرِي) لِكَيْ نَعْرِفَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ حَكَمُوا إِسْبَانيَا لِمُدَّةِ 736 عَامٍ، وَبَعْدَ قُرَابَةِ ثَمَانِيَةِ قُرُونٍ تَمَّ إِقْصَاءُ وَإِبْعَادُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِسْبَانيَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ يُقِيمُ الْأَذَانَ مُعْلِنًا وُجُوبَ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدِ اسْتَخْدَمُوا الْقُوَّةَ عَسْكَرِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا فِي إِسْبَانيَا بَعْدَمَا فَتَحُوهَا لَمَا بَقِيَ فَوْقَ أَرْضِ إِسْبَانيَا أَيُّ نَصْرَانِيٍّ لِيَقُومَ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرْدِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَ إِسْبَانيَا.
رُبَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَصِفَ الْإِنْسَانُ -لَوْ شَاءَ- الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَفَادُوا مِنْ خِبْرَاتِ وَثَرْوَاتِ الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحُوهَا، وَلَكِنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَّهِمَهُمْ أَحَدٌ بِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَخْدَمُوا السَّيْفَ لِكَيْ يُحَوِّلُوا الْإِسْبَانِيِّينَ إِلَى مُسْلِمِينَ يَعْتَنِقُونَ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ خَوْفًا مِنْ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ.
*يَقُولُ (بَاندِكْت جييانا نيترا ديب شاستري) أَثْنَاءَ لِقَاءٍ تَمَّ عَقْدُهُ فِي جورافور بِالْهِنْدِ سَنَةَ (ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَلْفٍ 1928)، يَقُولُ:
((إِنَّ مُنْتَقِدِي مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرَوْنَ النَّارَ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُشَاهِدُوا النُّورَ، وَيَسْتَسِيغُونَ الْقُبْحَ بَدَلًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَمَالِ، إِنَّهُمْ يُخَرِّفُونَ، وَيَعْتَبِرُونَ كُلَّ فَضِيلَةٍ وَمَيْزَةٍ وَكَأَنَّهَا رَذِيلَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ؛ إِنَّ ذَلِكَ إِنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ نِعْمَةِ التَّمْيِيزِ وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ؛ إِنَّ مُنْتَقِدِي مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّمَا هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمْيَانِ-كَلَامُهُ- إِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ أَنَّ السَّيْفَ الْوَحِيدَ الَّذِي شَهَرَهُ وَشَرَعَهُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّمَا كَانَ هُوَ سَيْفُ الرَّحْمَةِ وَسَيْفُ التَّعَاطُفِ وَالصَّدَاقَةِ وَالتَّسَامُحِ إِنَّهُ السَّيْفُ الَّذِي يَهْزِمُ الْأَعْدَاءَ وَيُنَظِّفُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْغَضَبِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْكَرَاهِيَةِ.
لَقَدْ كَانَ سَيْفُهُ أَمْضَى مِنَ السَّيْفِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الْحَدِيدِ الصُّلْبِ، لَقَدْ فَضَّلَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- الْهِجْرَةَ عَلَى قِتَالِ أَبْنَاءِ بَلَدِهِ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا تَجَاوَزَ الْعُدْوَانُ كُلَّ حُدُودِ إِمْكَانَاتِ التَّسَامُحِ؛ امْتَشَقَ سَيْفَهُ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَيَّ دِينٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ نَشْرُهُ بِالسَّيْفِ إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَمْقَى، لَا يَعْرِفُونَ الطُّرُقَ السَّلِيمَةَ لِنَشْرِ الدِّينِ، وَلَا يَعْرِفُونَ فِيمَا تُسْتَخْدَمُ السُّيُوفُ، وَلَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ شُئُونِ الدُّنْيَا بِوَجْهٍ عَامٍّ إِنَّهُمْ مَزْهُوُّونَ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ الْحَقِّ بِمَسَافَاتٍ كَبِيرَةٍ شَاسِعَةٍ)).
قَالَ هَذَا الْكَلَامَ صَحَفِيٌّ مِنْ طَائِفَةِ السِّيخِ فِي جَرِيدَةٍ تَصْدُرُ فِي دِلْهِي فِي 17 نُوفَمْبِر سَنَةَ 1947م.
((رِسَالَةُ الْمُسْلِمِينَ: دَعْوَةُ الْعَالَمِ
إِلَى التَّوْحِيدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ))
إِنَّ رَسُولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ كُتُبَهُ، وَطَيَّرَ رَسَائِلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فِي الْأَرْضِ: ادْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ، لَا تَحُولُوا دُونَ النُّورِ وَأْقَوامِكُمْ وَشُعُوبِكُمْ، كُفُّوا عَنِ التَّضْلِيلِ، وَانْزِعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، آمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.
هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ السَّوَاءُ، فَسَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو بِهَا الْمُلُوكَ، وَيُرْسِلُ بِهَا الْكُتُبَ، وَيَخُطُّ بِهَا الرَّسَائِلَ، وَيَدْعُو بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبِيدٌ، هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ، لَا يَسْتَغِلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِنَّمَا الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
وَالنَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، وَصَفْوَةُ النَّبِيِّينَ، لَمْ يُحِلَّ لَهُ رَبُّهُ –جَلَّ وَعَلَا- الظُّلْمَ بِحَالٍ أَبَدًا –حَاشَا وَكَلَّا-، لَمْ يُبِحْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَحَدٍ، كَيْفَ وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ –سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!!
((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا)) .
الْإِسْلَامُ يَحْتَرِمُ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَيَحْتَرِمُ الْجَسَدَ الْإِنْسَانِيَّ وَلَوْ كَانَ مَقْتُولًا عَلَى الْكُفْرِ؛ فَإِنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، عِنْدَمَا تَشْتَبِكُ الرِّمَاحُ، وَعِنْدَمَا تَتَشَابَكُ الْأَسِنَّةُ، وَعِنْدَمَا تُسَلُّ السُّيُوفُ لَامِعَةً؛ يَأْتِي النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ حَامِلَ السَّيْفِ وَمُسَدِّدَ الرُّمْحِ لَا يَخْبِطُ بِهِ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَإِنَّمَا هُوَ فَاعِلٌ بِذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مِنْهَاجِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، ((لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَخُونُوا وَلَا تَغُلُّوا)) ، فَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، نَهَى عَنْ أَنْ يُمَثَّلَ بِقَتِيلٍ؛ تُشَوَّهُ صُورَتُهُ أَوْ تُمَزَّقُ أَعْضَاؤُهُ أَوْ يُعْبَثُ بِجُثَّتِهِ.
فَنَهَى النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- عَنِ امْتِهَانِ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِأَلَّا يَدَعُوا جُثَثَ الْكَافِرِينَ نَهْبًا لِجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَسِبَاعِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا تُخَدُّ لَهُمُ الْأَخَادِيدُ، ثُمَّ يُلْقَوْا فِيهَا، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ احْتِرَامًا لِذَلِكَ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ صَاحِبُهُ كَافِرًا كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا بِـ(بَدْرٍ)، وَجِيءَ بِهِمْ، فَجُعِلُوا فِي الْقَلِيبِ، وَكَانَ جَافًّا يَابِسًا، ثُمَّ أُهِيلَ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ، وَجُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةُ.
النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِعَدَمِ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى، وَيَأْمُرُ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- بِأَنْ يُحْتَرَمَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ.
النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِدِينِ السَّلَامِ، بِدِينِ الرَّحْمَةِ، بِالدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُؤَلِّفُ وَيُجَمِّعُ، وَلَا يُنَفِّرُ وَلَا يُفَرِّقُ، هُوَ دِينُ الْحَقِّ دِينُ اللهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
وَبَعْدُ:
((فَضْلُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ وَصَوْمِ عَاشُورَاءَ))
((بَدْأُ التَّأْرِيخِ الْهِجْرِيِّ))
فَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّهُ يَأْتِينَا مِنْكَ كُتُبَ لَيْسَ لَهَا تَأْرِيخٌ»، فَجَمَعَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَاسْتَشَارَهُمْ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: «أَرِّخُوا كَمَا تُؤَرِّخُ الفُرْسُ بِمُلُوكِهَا؛ كُلَّمَا هَلَكَ مَلِكٌ أَرَّخُوا بِوِلَايَةِ مَنْ بَعْدَهُ»، فَكَرِهَ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ.
فَقَالَ بَعْضُهُم: «أَرِّخُوا بِتَارِيخِ الرُّومِ»، فَكَرِهُوا ذَلِكَ أَيْضًا.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: «أَرِّخُوا مِنْ مَوْلِدِ النَّبِيِّ ﷺ».
وَقَالَ آخَرُونَ: «مِنْ مَبْعَثِهِ».
وَقَالَ آخَرُونَ: «مِنْ هِجْرَتِهِ».
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «الْهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَأَرِّخُوا بِهَا»، فَأَرَّخُوا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَشَاوَرُوا مِنْ أَيِّ شَهْرٍ يَكُونُ ابْتِدَاءُ السَّنَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: «مِنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ النبيُّ ﷺ مُهَاجِرًا»، وَاخْتَارَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنْ يَكُونَ مِنَ المُحَرَّمِ؛ لِأَنَّهُ شَهْرٌ حَرَامٌ يَلِي شَهْرَ ذِي الْحَجَّةِ الَّذِي يُؤدِّي الْمُسْلِمُونَ فِيهِ حَجَّهُمْ، الَّذِي بِهِ تَمَامُ أَرْكَانِ دِينِهِمْ، وَكَانَتْ فِيهِ بَيْعَةُ الْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِلنَّبِيِّ ﷺ وَالْعَزِيمَةُ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ السَّنَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْهِجْرِيَّةِ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ الْمُحَرَّمِ.
((فَضْلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالنَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ فِيهَا خَاصَّةً))
وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ هِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ، وَشَهْرٌ مُفْرَدٌ هُوَ رَجَبٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَبْدِيلِ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّم مَكَانَ صَفَرٍ لَئِلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِدُونِ قِتَالٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ»، وَأَمَّا إِضَافَةُ رَجَبٍ إِلَى قَبِيلَةِ مُضَرَ؛ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ تُحَافِظُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَشَدَّ مِنْ مُحَافَظَةِ سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
وَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ عَامَّةً وَخَصَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهَا خَاصَّةً، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا0: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]؛ أَيْ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَغِشْيَانِ مَا حَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
((فَضْلُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ))
وَمِنَ الْأُشْهُرِ الْحُرُمِ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَقَدْ شَرَّفَهُ اللهُ تَعَالَى وَفَضَّلَهُ وَأَضَافَهُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى اللهِ وَعَظَّمَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ في «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ».
وَعَنْ جُنْدُبَ بْنِ سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ».
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ»، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.
((فَضْلُ صَوْمِ عَاشُوَرَاءَ))
وَالْعَاشِرُ مِنْ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ هُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَهُوَ يَوْمٌ صَالِحٌ مُعَظَّمٌ.
وَقَدْ رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، رَغَّبَ فِي صِيَامِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ».
وَلَفْظُهُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ».
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ».
وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ غُفِرَ لَهُ سَنَةٌ أَمَامَهُ وَسَنَةٌ خَلْفَهُ، وَمَنْ صَامَ عَاشُورَاءَ غُفِرَ لَهُ سَنَةٌ».
النَّبِيُّ ﷺ فِي آخِرِ عُمُرِهِ عَزَمَ أَلَّا يَصُومَهُ وَحْدَهُ بَلْ يَضُمُّ إِلَيْهِ الْيَوْمَ التَّاسِعَ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»؛ يَعْنِي مَعَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعِنْدَهُ كَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ».
قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
((لَا تُضَيِّعُوا أَجْرَ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُعَظَّمَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى))
فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي صِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ الَّتِي نَدَبَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى صِيَامِهَا، كَهَذَا الْيَوْمِ الَّذِي يَعْرِضُ لَنَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ.
فَهَذَا الْيَوْمُ الْعَظِيمُ يُكَفِّرُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِصِيَامِهِ ذُنُوبَ سَنَةٍ مَضَتْ، هَذَا إِذَا وَقَعَ هَذَا الصِّيَامُ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا0، وَالرَّسُولُ ﷺ أَخْبَرَ إِنَّه: «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لهُ مِن صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ»، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ إِذَا أَصْبَحَ الْمَرْءُ صَائِمًا فَعَلَيْهِ أَلَّا يَصْخَبَ وَأَلَّا يَرْفُثَ وَأَلَّا يَقُولَ الْكَلِمَةَ الْعَوْرَاءَ، بَلْ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ كَمَا هُوَ صَائِمٌ عَمَّا أَحَلَّ اللهُ، فَإِنَّ الَّذِي قَدْ كَفَّ عَنْهُ فِي يَوْمِ الصِّيَامِ هُوَ مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الطَّعَامِ والشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ، أَفَيَكُفُّ عَمَّا أَحَلَّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ وَهُوَ رَاتِعٌ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ؟!! فَهَذَا لَا يُعْقَلُ!!
فَالْتَفِتْ إِلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا يُكَفِّرُ صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَكَذَلِكَ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ -وَاللهُ يَرْعَاكَ-.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر : الإسلام دين الرحمة والسلام، وفضل شهر الله المحرم وصوم عاشوراء