((مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ))
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رِسَالَةُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ))
*تَمْهِيدٌ:
فَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِهِ، بَعَثَهُمْ جَمِيعًا بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِتَكُونَ الْعِبَادَةُ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَكُلُّهُمْ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَالرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِأَنْ يَشْهَدُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، بَلْ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَعْتَقِدُوا ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ.
فَلَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا، وَتَحْقِيقِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا.
فَالْمُرَادُ مِنْهُمُ الْعِلْمُ بِمَعْنَاهَا، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْبُعْدُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِيهَا، وَالْمُنَافِقُونَ قَالُوهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوهَا بِقُلُوبِهِمْ، فَكَانُوا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ: هِيَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَقِّقُ التَّوْحِيدَ وَيُعَلِّمُهُ أُمَّتَهُ))، وَيَحْرِصُ عَلَى بَيَانِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، فِي الْحَرْبِ وَفِي السِّلْمِ، فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُ التَّوْحِيدَ وَيُحَذِّرُ مِنَ الشِّرْكِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ.
((وَكُلُّ هَذَا لِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ، الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا إلَّا بِهِ، وَيَغْفِرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِصَاحِبِهِ وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ تَرَكَهُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وَلِهَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ أَفْضَلَ الْكَلَامِ وَأَعْظَمَهُ، فَأَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)) » .
مِنْ رَحْمَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعِبَادِهِ: أَنْ أَرْسَلَ لَهُمُ الرُّسُلَ، بَدْءًا بِنُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَانْتِهَاءً بِمُحَمَّدٍ ﷺ، أَرْسَلَهُمْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالنَّـهْيِ عَنِ الشِّرْكِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
عِبَادَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ.
كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) تَضَمَّنَتِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ.
تَضَمَّنَتْ نَفْيَ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللهِ، وَإِثْبَاتَ الْعِبَادَةِ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ فَمَنْ عَبَدَ اللهَ وَلَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ، وَمَا أَكْثَرَ الْجَهْلَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ!
لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]؛ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163].
أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ الْحِكْمَةَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}
وَالرُّسُلُ: هُمُ الْأَدِلَّاءُ عَلَى اللهِ، هُمُ الْقَادَةُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَجِنَانِهِ؛ فَبِهِمْ يُعْرَفُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتُعْرَفُ مَرْضَاتُهُ وَالطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهَا؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الرُّسُلِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِمْ وَسَلمَ-.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَ هَذَا الرَّكْبَ الْمُبَارَكَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ؛ مِنْ أَجْلِ هِدَايَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَمَّا حَادَتْ عَنِ الطَّرِيقِ وَضَلَّتْ، وَدَخَلَ الشِّرْكُ عَلَيْهَا فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَأَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نُوحًا وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، إِلَى أَنْ جَاءَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَدَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ: عِبَادَةُ اللهِ، وَاجْتِنَابُ الطَّاغُوتِ.
وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا رَسُولًا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَّمٍد -صَلى اللهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ-؛ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ؛ وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((مَعْنَى الطَّاغُوتِ: مَا تَجَاوَزَ الْعَبْدُ بِهِ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ)).
فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا؛ يُحَذِّرُهُمْ، وَيُنْذِرُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِه -جَلَّ وَعَلَا-.
فَكُلُّ الرُّسُلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ.
وَالثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالْكُفْرُ بِهِ.
وَالطَّاغُوتُ يَشْمَلُ: كُلَّ مَنْ عُبِدَ بِبَاطِلٍ.
إِذَنْ؛ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ دَاعِينَ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْكُفْرِ بِكُلِّ مَنْ وَمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَجَاؤُوا جَمِيعًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَهِيَ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ.
فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ: نَفْيُ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ، وَإِثْبَاتُهَا للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ.
((خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ لِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ))
إِنَّ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ هُوَ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ الْأَسَاسُ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَضِدُّهُ: الشِّرْكُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
{وَمَا خَلَقْتُ}؛ أَيْ: أَوْجَدْتُ إِيجَادًا مَسْبُوقًا بِالتَّقْدِيرِ.
{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}؛ أَيْ: مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَيِّ شَيْءٍ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَعْبُدُونِ}: لِتَعْلِيلِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْخَلْقِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا}؛ أَيْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}: فِي كُلِّ طَائِفَةٍ، وَقَرْنٍ، وَجِيلٍ مِنَ النَّاسِ {رَسُولًا}؛ الرَّسُولُ: مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، {أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ}: أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، {وَاجْتَنِبُوا}: وَاتْرُكُوا، وَفَارِقُوا {الطَّاغُوتَ}: مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ وَهُوَ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ.
الطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ -كَالْأَصْنَامِ-، أَوْ مَتْبُوعٍ -كَالْكُهَّانِ، وَالسَّحَرَةِ-، أَوْ مُطَاعٍ -كَمَنْ تَوَلَّى أَمْرًا وَأَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ--؛ فَلَا يُنَفَّذُ أَمْرُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَتَنْبَغِي طَاعَتُهُ فِيمَا سِوَاهُ.
قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [الإنسان:36].
بَيَّنَ لنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادَتِهِ.
وَالْعِبَادَةُ: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَأَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَوَصَّى، وَأَوْجَبَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ.
التَّوْحِيدُ شَرْطُ صِحَّةٍ لِكُلِّ أَمْرٍ يُتَعَبَّدُ بِهِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَالتَّوْحِيدُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ؛ فَأَعْمَالُ الْعِبَادِ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ، وَذِكْرٍ، وَاسْتِغْفَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَا يَقْبَلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا إِذَا وَحَّدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَأَفْرَدَهُ بِالْعِبَادَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ قَرَنَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ بِالْأَمْرِ بِتَرْكِ الشِّرْكِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
فَلَا يَقْبَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَمَلًا إِلَّا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ.
((فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُسَمَّى صَلَاةً إِلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ؛ فَإِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ فَسَدَتْ، كَالْحَدَثِ إِذَا دَخَلَ فِي الطَّهَارَةِ)) .
فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ؛ وَلِذَلِكَ يَظْلِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ ظُلْمًا بَيِّنًا إِذَا أَهْمَلَ مَعْرِفَةَ التَّوْحِيدِ، وَإِذَا عَرَفَ التَّوْحِيدَ فَلَمْ يُحَقِّقْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ.
وَالْعِبَادَةُ: هِيَ غَايَةُ الذُّلِّ مَعَ غَايَةِ الْحُبِّ؛ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- :
وَعِبَادَةُ الرَّحْمَنِ غَايَةُ حُبِّهِ *** مَعْ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَانِ
وَعَلَيْهِمَا فَلَكُ الْعِبَادَةِ دَائِرٌ *** مَا دَارَ حَتَّى قَامَتِ الْقُطْبَانِ
وَمَدَارُهُ بِالْأَمْرِ أَمْرِ رَسُولِهِ *** لَا بِالْهَوَى وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
وَالْعِبَادَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ .
وَالْعِبَادَةُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى هِيَ مَا تَوَفَّرَ فِيهَا شَرْطَانِ:
*الْإِخْلَاصُ للهِ؛ حَيْثُ لَا شِرْكَ فِيهَا.
*وَالْمُتَابَعَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ؛ حَيْثُ لَا بِدْعَةَ فِيهَا.
فَإِذَا اخْتَلَّ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ -وَهُوَ الْإِخْلَاصُ-، فَدَخَلَ الشِّرْكُ الْعِبَادَةَ؛ كَانَ مَنْ أَتَى بِذَلِكَ غَيْرَ عَابِدٍ للهِ، وَإِذَا اخْتَلَّ شَرْطُ الْمُتَابَعَةِ؛ صَارَتِ الْعِبَادَةُ ابْتِدَاعًا فِي دِينِ اللهِ.
وَالشِّرْكُ يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ يُفْسِدُ الطَّهَارَةَ؛ فَأَيُّ عِبَادَةٍ خَالَطَهَا شِرْكٌ أَوْ دَاخَلَهَا فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ، كَمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ إِذَا خَالَطَهَا أَوْ بَاشَرَهَا الْحَدَثُ فسَدَتْ.
((مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هِيَ الْإِسْلَامُ وَدَعْوَةُ التَّوْحِيدِ))
((إِنَّ اللهَ أَمَرَ نَبِيَّنَا وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَقَائِدَ وَأَخْلَاقٍ وَأَعْمَالٍ قَاصِرَةٍ وَمُتَعَدِّيَةٍ، فَقَدْ آتَاهُ اللهُ رُشْدَهُ وَعَلَّمَهُ الْحِكْمَةَ مُنْذُ كَانَ صَغِيرًا، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ يَقِينًا وَعِلْمًا وَقُوَّةً فِي دِينِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعِبَادِ)) .
قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الْمُمْتَحَنَةُ: 4].
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ تَقْتَدُونَ بِهَا فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّا بَرِيئُونَ مِنْكُمْ وَمِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، كَفَرْنَا بِأَنَّنَا مِنْكُمْ وَبِأَنَّكُمْ مِنَّا، فَلَا وِلَايَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.
وَكَفَرْنَا بِأَنَّ لَكُمْ حَقَّ الْقَرَابَةِ أَوِ الْمُوَاطَنَةِ، وَكَفَرْنَا بِمَا تُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ بَاطِلٍ، فَلَا نُبَالِي بِكُمْ وَلَا بِآلِهَتِكُمْ، وَظَهَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَشِدَّةُ الْكَرَاهِيَةِ، فَنَحْنُ أَعْدَاؤُكُمْ وَأَنْتُمْ أَعْدَاءٌ لَنَا.
وَنَحْنُ نُبْغِضُكُمْ بُغْضًا لَا يَزُولُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْتُمْ تُبْغِضُونَنَا لِأَنَّنَا نُقَاوِمُ شِرْكَكُمْ وَنُحَطِّمُ أَصْنَامَكُمْ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا بِتَوْفِيقِكَ لَنَا وَهِدَايَتِنَا مُخْلِصَيْنِ مُطِيعَيْنِ خَاضِعَيْنِ لَكَ، رَبَّنَا وَاجْعَلْ بَعْضَ أَوْلَادِنَا بِحِكْمَتِكَ وَتَوْفِيقِكَ جَمَاعَةً خَاضِعَةً مُنْقَادَةً لَكَ.
رَبَّنَا وَعَلِّمْنَا وَبَصِّرْنَا شَرَائِعَ دِينِنَا وَأَعْمَالَ حَجِّنَا وَالْأَمَاكِنَ الْخَاصَّةَ الَّتِي جَعَلْتَهَا لِعِبَادَتِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنَّا بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، وَتَقَبَّلْ مِنَّا تَوْبَتَنَا وَارْحَمْنَا إِنَّكَ أَنْتَ كَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِكَ الدَّائِمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ.
وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِآيَاتِنَا حِينَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَاعِيًا رَبَّهُ، بَعْدَ أَنْ أَسْكَنَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ مَكَّةَ؛ رَبِّ اجْعَلْ مَكَّةَ بَلَدًا ذَا أَمْنٍ، يَأْمَنُ كُلُّ مَنْ فِيهَا، وَأَبْعِدْنِي وَأَبْعِدْ بَنِيَّ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: أَيِ اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ آخَرَ.
فَإِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ الَّذِي عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَدَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ- إِذَا كَانَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرْكَ، وَيَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَهُ وَذُرِيَّتَهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((فَمَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!)).
إِذَا كَانَ الْخَلِيل -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ فِي جَانِبٍ، وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ.
وَهُوَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ، الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلِيلًا، وَالَّذِي أَبْلَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَقَالَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَنَجَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا بَعْدَمَا كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَعَادَى قَوْمَهُ وَأَبَاهُ، إِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!!
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل: 120-123].
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ إِمَامًا فِي الْخَيْرِ، يُؤْتَمٌّ بِهِ، مُطِيعًا للهِ، خَاضِعًا لَهُ، مُلَازِمًا عِبَادَتَهُ، مَائِلًا عَنْ كُلِّ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، مُوَحِّدًا للهِ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِهِ أَرْبَابًا وَلَا آلَهَةً وَلَا أَسْبَابًا مُنْذُ نَشْأَتِهِ.
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ، اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، شَاكِرًا للهِ عَلَى أَنْعُمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ اللهُ لِنُبُوَّتِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِخُلَّتِهِ، وَهَدَاهُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْقَوِيمِ.
{وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: وَآتَيْنَاهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَطَايَا حَسَنَةً؛ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَالْخُلَّةِ، وَلِسَانِ الصِّدْقِ، وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَالْقَبُولِ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّالِحِينَ.
{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: ثُمَّ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ وَعَصْرِهِ وَبَعْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَتْبَاعِ مُوسَى وَعِيسَى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنِ اتَّبِعْ دِينَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، مَائِلًا عَنْ كُلِّ الْمِلَلِ الْبَاطِلَةِ، مُسْتَقِيمًا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي هَدَيْنَاهُ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ كَانَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُخْلَصِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161-163].
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّنِي أَرْشَدَنِي رَبِّي إِلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ الْقَوِيمِ، لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَلَا الْتِوَاءَ، حَالَةَ كَوْنِهِ دِينًا ذَا مَبَادِئَ عَظِيمَةٍ تُقَوَّمُ بِهَا الْعَقَائِدُ وَأَنْوَاعُ السُّلُوكِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهَدَانِي دِينَ إِبْرَاهِيمَ فِي أُصُولِهِ وَعَقَائِدِهِ وَكُلِّيَّاتِهِ السُّلُوكِيَّةِ حَالَ كَوْنِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَائِلًا عَنْ كُلِّ عِوَجٍ فِي مِلَلِ النَّاسِ وَمَذَاهِبِهِمْ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ.
وَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْتُمْ تَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى دِينٍ.
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}: قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ صَلَاتِي وَعِبَادَتِي وَتَقَرُّبِي إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، وَحَيَاتِي وَمَوْتِي كُلَّهَا خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، الْخَالِقِ لِكُلِّ الْمَوْجُودَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالْمُمِدِّ لَهَا دَوَامًا بِعَطَاءَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، فَهُوَ الْمَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَفِي إِلَهِيَّتِهِ.
فَبِهَذَا التَّوْحِيدِ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ إِسْلَامَهُمْ، وَأَوَّلُ الْمُنَفِّذِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي سُلُوكِي النَّفْسِي وَالْجَسَدِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
((الْحِكْمَةُ مِنَ الْحَجِّ وَجُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِهِ وَأَهْدَافِهِ))
*تَمْهِيدٌ:
الْحَجُّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)).
وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي ((مُسْنَدِ الْفَارُوقِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ وَلَمْ يَحُجَّ؛ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا)).
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَرُكْنِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ: مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ، مَالِكًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاجِدًا أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الْمَرْأَةِ أَحَدُ مَحَارِمِهَا.
((جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ))
*لِلْحَجِّ فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ بَيَّنَتْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَمِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ:
1*أَنَّهُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَسَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي:
وَدَلِيلُ ذَلِكَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ.
قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.
قَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟))
قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ: ((تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟))
قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
2*وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ أَيْضًا: أَنَّ الْحَاجَّ يَعُودُ مِنْ حَجِّهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3*وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ: أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْجِهَادِ، وَهُوَ أَفْضْلُهَا:
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ؛ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟
قَالَ: ((لَا، وَلَكِنْ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
4*وَمِنْ فَوَاضِلِ الْحَجِّ وَفَضَائِلِهِ: الْفَوْزُ بِأَعْلَى الْمَطَالِبِ وَهِيَ الْجَنَّةُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((بَعْضُ أَهْدَافِ الْحَجِّ))
لِلْحَجِّ أَهْدَافُهُ الْعَظِيمَةُ؛ مِنْهَا:
1*الْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.
2*وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ أَنَّ فِيهِ ارْتِبَاطًا بِرُوحِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ الدِّيَارَ الْمُقَدَّسَةَ هِيَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَكُلَّمَا ارْتْبَطَ الْمُسْلِمُونَ بِتِلْكَ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَبَلَّغُوا شَرْعَهُ.
3*وَفِي الْحَجِّ إِعْلَانٌ عَمَلِيٌّ لِمَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا مَوْقِفًا وَاحِدًا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ فِي أَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.
4*وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ أَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِمَبْدَأِ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ؛ حَيْثُ يَقْوَى التَّعَارُفُ، وَيَتِمُّ التَّشَاوُرُ، وَيَحْصُلُ تَبَادُلُ الْآرَاءِ، وَذَلِكَ بِالنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ وَرَفْعِ مَكَانَتِهَا الْقِيَادِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ.
((الْحِكْمَةُ مِنْ الْحَجِّ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))
إِنَّ الْحَجَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَبَيَانِ أَسْرَارِ فَرْضِيَّتِهَا:
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيَّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَأَمَّا الْحَجُّ فَشَأْنٌ آخَرُ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْحُنَفَاءُ الَّذِينَ ضَرَبُوا فِي الْمَحَبَّةِ بِسَهْمٍ، وَشَأْنُهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهِ الْعِبَارَةُ، وَهُوَ خَاصَّةُ هَذَا الدِّينِ الْحَنِيفِ، وَمَعُونَةُ الصَّلَاةِ، وَسِرُّ قَوْلِ الْعَبْدِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَإِنَّهُ مُؤَسَّسٌ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَالْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ.
وَهُوَ اسْتِزَارَةُ الْمَحْبُوبِ لِأَحِبَّائِهِ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى بَيْتِهِ، وَمَحَلِّ كَرَامَتِهِ، وَلِهَذَا إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَشِعَارُهُمْ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) إِجَابَةُ مُحِبٍّ لِدَعْوَةِ حَبِيبِهِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ مَوْقِعٌ عِنْدَ اللهِ، وَكُلَّمَا أَكْثَرَ الْعَبْدُ مِنْهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَبِّهِ وَأَحْظَى عِنْدَهُ، فَهُوَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَقُولَ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) حَتَّى يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ.
وَسَائِرُ شَعَائِرِ الْحَجِّ مِمَّا شَهِدَتْ بِحُسْنِهِ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَعَلِمَتْ أَنَّ الَّذِي شَرَعَ هَذِهِ لَا حِكْمَةَ فَوْقَ حِكْمَتِهِ)).
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((إِنَّ الْحَاجَّ يَتَذَكَّرُ بِتَحْصِيلِ الزَّادِ زَادَ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ فَاسِدَةً بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَلَا تَصْحَبُهُ وَلَا تَنْفَعُهُ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي يَفْسُدُ فِي أَوَّلِ مَنَازِلِ السَّفَرِ، فَيَبْقَى صَاحِبُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ مُتَحَيِّرًا.
وَإِذَا فَارَقَ الْحَاجُّ وَطَنَهُ، وَدَخَلَ الْبَادِيَةَ، وَشَهِدَ تِلْكَ الْعَقَبَاتِ وَالصِّعَابَ وَالشَّدَائِدَ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ خُرُوجَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ إِلَى مِيقَاتِ الْقِيَامَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَهْوَالِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَتَذَكَّرَ وَقْتَ إِحْرَامِهِ وَتَجَرُّدِهِ مِنْ ثِيَابِهِ أَنَّهُ يَلْبَسُ كَفَنَهُ، وَأَنَّهُ سَيَلْقَى رَبَّهُ بِزِيٍّ مُخَالِفٍ لِزِيِّ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يَأْتِي رَبَّهُ مُتَجَرِّدًا مِنَ الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا وَغُرُورِهَا، مَا مَعَهُ إِلَّا عَمَلُهُ؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَإِذَا لَبَّى فَلْيَسْتَحْضِرْ بِتَلْبِيَتِهِ إِجَابَةَ اللهِ تَعَالَى؛ إِذْ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، وَلْيَرْجُ الْقَبُولَ، وَلْيَخْشَ عَدَمَ الْإِجَابَةِ، وَلْيَتَذَكَّرْ خَيْرَ مَنْ لَبَّى وَأَجَابَ النِّدَاءَ، مُحَمَّدًا ﷺ وَصَحَابَتَهُ الْكِرَامَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-، وَلْيَعْزِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاقْتِفَاءِ سُنَّتِهِ، وَاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ.
وَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَرَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجُوَ الْأَمْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَنْ يَخْشَى أَلَّا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبِ عِنْدَ اللهِ، مُعَظِّمًا رَجَاءَهُ فِي رَبِّهِ، مُحْسِنًا ظَنَّهُ بِهِ.
فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ الْحَرَامَ اسْتَحْضَرَ عَظَمَةَ اللهِ فِي قَلْبِهِ، وَعَظُمَتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، وَازْدَادَ لَهُ هَيْبَةً وَإِجْلَالًا، وَشَكَرَ اللهَ تَعَالَى عَلَى تَبْلِيغِهِ رُتْبَةَ الْوَافِدِينَ إِلَيْهِ، وَلْيَسْتَشْعِرْ عَظَمَةَ الطَّوَافِ بِهِ؛ فَإِنَّهُ صَلَاةٌ.
وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ فِي مِنًى، فَيَتَذَكَّرْ بِمَا يَرَى مِنَ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ، وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ، وَاجْتِمَاعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ وَشَدَائِدَ: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 10-13].
وَإِذَا جَاءَ رَمْيُ الْجِمَارِ؛ فَاقْصِدْ بِذَلِكَ الِانْقِيَادَ لِلْأَمْرِ، وَإِظْهَارَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ، وَامْتِثَالَ السُّنَّةِ، وَاتِّبَاعَ الطَّرِيقَةِ، وَتَقْدِيمَهَا عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ وَرَغَبَاتِهَا)).
((الْبَيْتُ الْحَرَامُ وَالْحَجُّ وَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))
لَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ -أَيْ: لِعُمُومِ النَّاسِ- لِعِبَادَتِهِمْ وَنُسُكِهِمْ، يَطُوفُونَ بِهِ، وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ، وَيَعْتَكِفُونَ عِنْدَهُ، {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}؛ يَعْنِي: الْكَعْبَةَ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، الَّذِي يَزْعُمُ كُلٌّ مِنْ طَائِفَتَيِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ وَمَنْهَجِهِ، وَلَا يَحُجُّونَ إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ عَنْ أَمْرِ اللهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَنَادَى النَّاسَ إِلَى حَجِّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مُبَارَكًا}؛ أَيْ: وُضِعَ مُبَارَكًا، {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96-97].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((يُخْبِرُ تَعَالَى بِعَظَمَةِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ الْبُيُوتِ الَّتِي وَضَعَهَا اللهُ فِي الْأَرْضِ لِعِبَادَتِهِ، وَإِقَامَةِ ذِكْرِهِ.
وَأَنَّ فِيهِ مِنَ الْبَرَكَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ، وَتَنَوُّعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ لِلْعَالَمِينَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَفَضْلًا غَزِيرًا.
وَأَنَّ فِيهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، تُذَكِّرُ بِمَقَامَاتِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَتَنَقُّلَاتِهِ فِي الْحَجِّ، وَمِنْ بَعْدِهِ تُذَكِّرُ بِمَقَامَاتِ سَيِّدِ الرُّسُلِ وَإِمَامِهِمْ.
وَفِيهِ الْأَمْنُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا قَدَرًا، مُؤْمِنًا شَرْعًا ودِينًا, فَلَمَّا احْتَوَى عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هَذِهِ مُجْمَلَاتُهَا، وَتَكْثُرُ تَفْصِيلَاتُهَا؛ أَوْجَبَ اللهُ حَجَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَطِيعِينَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِأَيِّ مَرْكُوبٍ يُنَاسِبُهُ، وَزَادٍ يَتَزَوَّدُهُ، وَلِهَذَا أَتَى بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي يُمْكِنُ تَطْبِيقُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَرْكُوبَاتِ الْحَادِثَةِ، وَالَّتِي سَتَحْدُثُ.
وَهَذَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، حَيْثُ كَانَتْ أَحْكَامُهُ صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُمْكِنُ الصَّلَاحُ التَّامِّ بِدُونِهَا، فَمَنْ أَذْعَنَ لِذَلِكَ وَقامَ بِهِ؛ فَهُوَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ كَفَرَ فَلَمْ يَلْتَزِمْ حَجَّ بَيْتِهِ؛ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الدِّينِ، {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ})).
*أَمَرَ اللهُ الْخَلِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
ضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِنَا- بِأَنَّكَ تُشَاهِدُ الرَّسُولَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ حِينَ يَرْفَعَانِ أُسُسَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ عَلَى الْأُسُسِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهَا قَبْلَ انْدِثَارِهَا.
وَمَعَ قِيَامِهِمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَانَا يَدْعُوَانِ اللهَ تَعَالَى: رَبَّنَا تَقَبَّلْ طَاعَتَنَا إِيَّاكَ، وَعِبَادَتَنَا لَكَ بِالرِّضَا وَالْإِثَابَةِ، إِنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ السَّمِيعُ دَوَامًا لِدُعَائِنَا، الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِنَا.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 26-29].
((ذَكَرَ تَعَالَى عَظَمَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَجَلَالَتَهُ، وَعَظَمَةَ بَانِيه، وَهُوَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}؛ أَيْ: هَيَّأْنَاهُ لَهُ وَأَنْزَلْنَاهُ إِيَّاهُ، وَجَعَلَ قِسْمًا مِنْ ذُريَّتِهِ مِنْ سُكَّانِهِ، وَأَمَرَهُ اللهُ بِبُنْيَانِهِ، فَبَنَاهُ عَلَى تَقْوَى اللهِ, وَأَسَّسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ, وَبَنَاهُ هُوَ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيل، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، بِأَنْ يُخْلِصَ للهِ أَعْمَالَهُ، وَيَبْنِيَهُ عَلَى اسْمِ اللهِ تَعَالَى.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}؛ أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَمِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَدْنَاسِ، وَأَضَافَهُ الرَّحْمَنُ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَلِتَعْظُمَ مَحَبَّتُهُ فِي الْقُلُوبِ، وَتُنْصَبُّ إِلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلِيَكُونَ أَعْظَمَ لِتَطْهِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ؛ لِكَوْنِهِ بَيْتَ الرَّبِّ لِلطَّائِفِينَ بِهِ وَالْعَاكِفِينَ عِنْدَهُ, الْمُقِيمِينَ لِعِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ ذِكْرٍ وَقِرَاءَةٍ وَتَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ.
{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}؛ أَيِ: الْمُصَلِّينَ، أَيْ: طَهِّرْهُ لِهَؤَلَاءِ الْفُضَلَاءِ الَّذِينَ هَمُّهُمْ طَاعَةُ مَوْلَاهُمْ وَخِدْمَتُهُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ عِنْدَ بَيْتِهِ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمُ الْحَقُّ وَلَهُمُ الْإِكْرَامُ، وَمِنْ إِكْرَامِهِمْ تَطْهِيرُ الْبَيْتِ مِنْ أَجْلِهِمْ.
وَيَدْخُلُ فِي تَطْهِيرِهِ: تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْوَاتِ اللَّاغِيَةِ وَالْمُرْتَفِعَةِ الَّتِي تُشَوِّشُ عَلَى الْمُتَعَبِّدِينَ بِالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، وَقَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَى الِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ؛ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْبَيْتِ، ثُمَّ الِاعْتِكَافَ لِاخْتِصَاصِهِ بِجِنْسِ الْمَسَاجِدِ.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}؛ أَيْ: أَعْلِمْهُم بِهِ وَادْعُهُمْ إِلَيْهِ، وَبَلِّغْ دَانِيهُمْ وَقَاصِيهُمْ فَرْضَهُ وَفَضِيلَتَهُ، فَإِنَّكَ إِذَا دَعَوْتَهُمْ أَتَوْكَ حُجَّاجًا وَعُمَّارًا.
{رِجَالًا}؛ أَيْ: مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ مِنَ الشَّوْقِ.
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}؛ أَيْ: نَاقَةٍ ضَامِرٍ تَقْطَعُ الْمَهَامِهَ وَالْمَفَاوِزَ، وَتَواصِلُ السَّيْرَ حَتَّى تَأْتِيَ إِلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ.
{مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}؛ أَيْ: مِنْ كُلِّ بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَقَدْ فَعَلَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، وَأَبْدَيَا فِي ذَلِكَ وَأَعَادَا، وَقَدْ حَصَلَ مَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ؛ أَتَاهُ النَّاسُ رِجَالًا وَرُكْبَانًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ فَوَائِدَ زِيَارَةِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ مُرَغِّبًا فِيهِ؛ فَقَالَ:
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}؛ أَيْ: لِيَنَالُوا بَبَيْتِ اللهِ مَنَافِعَ دِينِيَّةً مِنَ الْعِبَادَاتِ الْفَاضِلَةِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا فِيهِ، وَمَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةً مِنَ التَّكَسُّبِ وَحُصُولِ الْأَرْبَاحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكُلُّ هَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ كُلٌّ يَعْرِفُهُ.
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، وَهَذَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؛ أَيْ: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا؛ شُكْرًا للهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْهَا وَيَسَّرَهَا لَهُمْ، فَإِذَا ذَبَحْتُمُوهَا {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}؛ أَيْ: شَدِيدَ الْفَقْرِ.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}؛ أَيْ: يَقْضُوا نُسُكَهُمْ، وَيُزِيلُوا الْوَسَخَ وَالْأَذَى الَّذِي لَحِقَهُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} الَّتِي أَوْجَبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْهَدَايَا.
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}؛ أَيِ: الْقَدِيمِ أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، الْمُعْتَقِ مِنْ تَسَلُّطِ الْجَبَابِرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ بِالطَّوَافِ خُصُوصًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمَنَاسِكِ عُمُومًا لِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ، وَلِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ وَمَا قَبْلَهُ وَسَائِلُ إِلَيْهِ، وَلَعَلَّهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- لِفَائِدَةٍ أُخْرَى؛ وَهِيَ أَنَّ الطَّوَافَ مَشْرُوعٌ كُلَّ وَقْتٍ, وَسَوَاءٌ كَانَ تَابِعًا لِنُسُكٍ أَمْ مُسَتَقِلًّا بِنَفْسِهِ.
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30-31].
{ذٰلِكَ}؛ أَيْ: ذَكَرْنَا لَكُمْ مِنْ تِلْكُمُ الْأَحْكَامِ وَمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللهِ وَإِجْلَالِهَا وَتَكْرِيمِهَا؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ حُرُمُاتِ اللهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْبُوبَةِ للهِ، الْمُقَرِّبَةِ إِلَيْهِ، الَّتِي مَنْ عَظَّمَها وَأَجَلَّهَا أَثَابَهُ اللهُ ثَوَابًا جَزِيلًا، وَكَانَتْ خَيْرًا لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ عِنْدَ رَبِّهِ.
وَحُرُمَاتُ اللهِ: كُلُّ مَا لَهُ حُرْمَةٌ وَأَمَرَ تَعَالَى بِاحْتِرَامِهِ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ كَالْمَنَاسِكِ كُلِّهَا، وَكَالْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ، وَكَالهَدَايَا، وَكَالْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ الْعِبَادَ بِالْقِيَامِ بِهَا، فَتَعْظِيمُهَا إِجْلَالًا بِالْقَلْبِ، وَمَحَبَّتُهَا وَتَكْمِيلُ الْعُبُودِيَّةِ فِيهَا غَيْرَ مُتَهَاوِنٍ وَلَا مُتَكَاسِلٍ وَلَا مُتَثَاقِلٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مِنَّتَهُ وَإِحْسَانَهُ بِمَا أَحَلَّهُ لِعِبَادِهِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ؛ مِنْ بَقَرٍ وَإِبِلٍ وَغَنَمٍ، وَشَرَعَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْهِ، فَعَظُمَتْ مِنَّتُهُ فِيهَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
{إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} فِي الْقُرْآنِ تَحْرِيمُهُ، مِنْ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} الْآيَةَ، وَلَكِنَّ الَّذِي مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ؛ تَزْكِيَةً لَهُمْ وَتَطْهِيرًا مِنَ الشِّرْكِ بِهِ وَقَوُلِ الزُّورِ، وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ}؛ أَيْ: الْخَبَثَ الْقَذِرَ.
{مِنَ الْأَوْثَانِ}؛ أَيِ: الْأَنْدَادِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا آلِهَةً مَعَ اللهِ، فَإِنَّهَا أَكْبَرُ أَنْوَاعِ الرِّجْسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ {مِن} هُنَا لَيْسَتْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنَّ الرِّجْسَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَيَكُونُ مَنْهيًّا عَنْهَا عُمُومًا، وَعَنِ الْأَوْثَانِ الَّتِي هِيَ بَعْضُهَا خُصُوصًا.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}؛ أَيْ: جَمِيعَ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهَا مِنْ قَوْلِ الزُّورِ الَّذِي هُوَ الْكَذِبُ، وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الزُّورِ، فَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ وَالرِّجْسِ وَقَوْلِ الزُّورِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا {حُنَفَاءَ لِلَّهِ}؛ أَيْ: مُقْبِلِينَ عَلَى اللهِ وَعَلَى عِبَادَتِهِ، مُعْرِضِينَ عَمَّا سِوَاهُ، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.
{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ} فَمَثَلُهُ {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أَيْ: سَقَطَ مِنْهَا، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} بِسُرْعَةٍ، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}؛ أَيْ: بَعِيدٍ.
كَذَلِكَ الْمُشْرِكُ، فَالْإِيمَانُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاءِ مَحْفُوظَةٍ مَرْفُوعَةٍ, وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، فَإِمَّا أَنْ تَخْطَفَهُ الطَّيْرُ فَتُقَطِّعَهُ أَعْضَاءً، فَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ؛ إِذَا تَرَكَ الِاعْتِصَامَ بِالْإِيمَانِ تَخَطَّفَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَزَّقُوهُ، وَأَذْهَبُوا عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ, وَإِمَّا أَنْ تَهْوِيَ بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)).
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 32-33].
{ذٰلِكَ}؛ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكُمْ مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرِهِ {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وَالْمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ: أَعلَامُ الدِّينِ الظَّاهِرَةُ، وَمِنْهَا: الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158].
وَمِنْهَا: الْهَدايَا وَالْقُرْبَانُ لِلْبَيْتِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَى تَعْظِيمِهَا: إِجْلَالُهَا وَالْقِيَامُ بِهَا، وَتَكْمِيلُهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا يَقْدِر عَلَيْهِ الْعَبْدُ.
وَمِنْهَا: الْهَدَايَا، فَتَعْظِيمُهَا بِاسْتِحْسَانِهَا وَاسْتِسْمَانِهَا، وَأَنْ تَكُونَ مُكَمَّلَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللهِ صَادِرٌ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، فَالْمُعَظِّمُ لَهَا يُبَرْهِنُ عَلَى تَقْوَاهُ وَعَلى صِحَّةِ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا تَابِعٌ لِتَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى وَإِجْلَالِهِ.
{لَكُمْ فِيهَا}؛ أَيْ: فِي الْهَدَايَا {مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى}، هَذَا فِي الْهَدايَا الْمَسُوقَةِ مِنَ الْبُدْنِ وَنَحْوِهَا، يَنْتَفِعُ بِهَا أَرْبَابُهَا بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَضُرُّهَا.
{إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} مُقَدَّرٍ مُوَقَّتٍ, وَهُوَ ذَبْحُهَا إِذَا وَصَلَتْ {مَحِلُّهَا} وَهُوَ {الْبَيْتُ الْعَتِيق}؛ أَيِ: الْحَرَمُ كُلُّهُ ((مِنًى)) وَغَيْرُهَا، فَإِذَا ذُبِحَتْ أَكَلُوا مِنْهَا وَأَهْدَوا، وَأَطْعَمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.
((فَهْمُ رَجُلٍ حَدِيثِ عَهْدِ بِإِسْلَامٍ لِلْغَايَةِ مِنَ الْحَجِّ))
كَانَ (مُحَمَّد أَسَد) -رَحِمَهُ اللهُ- نِمْسَاويًّا مِنْ أَصْلٍ يَهُودِيٍّ، وَكَانَ يُدْعَى قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ (لِيُو بُولد فَايس)، وَكَانَ جَدُّهُ لِأَبِيهِ حَاخَامًا، وَأَمَّا أَبُوهُ فَبِمُقْتَضَى التَّقَالِيدِ الْعَائِلِيَّةِ فَقَدْ فَرَضَ عَلَى وَلَدِهِ (لِيُو بُولد) أَنْ يَدْرُسَ عَلَى أَسَاتِذَةٍ خُصُوصِيِّينَ الْعُلُومَ الدِّينِيَّةَ الْعِبْرَانِيَّةَ بِتَعَمُّقٍ كَبِيرٍ.
وَلَمْ يَكُنْ مَرَدُّ ذَلِكَ إِلَى أَيِّ وَرَعٍ امْتَازَ بِهِ أَبَوَاهُ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَنْتَمِيَانِ إِلَى جِيلٍ يَخْضَعُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ إِلَى التَّعَالِيمِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي سَبَكَتْ حَيَاةَ أَسْلَافِهِمَا، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ لَمْ يَسْعَ أَبَوَاهُ قَطُّ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَا فِي حَيَاتِهِمَا الْعَمَلِيَّةِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ التَّعَالِيمِ.
وَبَعْدَ رِحْلَةٍ فِكْرِيَّةٍ مَعْنُوِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ جَسَدِيَّةٍ؛ حَطَّ رَحْلَهُ فِي دِمَشْق قَارِئًا فِيهَا كُلَّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ يَدَاهُ مِنْ كُتُبٍ عَنِ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِ، وَلَقَدْ لَجَأَ إِلَى تَرْجَمَتَيْنِ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَرَنْسِيَّة وَأَلْمَانِيَّة؛ اسْتَعَارَهُمَا مِنْ إِحْدَى الْمَكْتَبَاتِ، تِلْكَ كَانَتْ دِرَاسَتَهُ إِلَى ذَلِكَ الْحِينِ عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ: «وَمَهْمَا كَانَتْ تِلْكَ الدِّرَاسَةُ مُؤَلَّفَةً مِنْ نُتَفٍ وَشَذَرَاتٍ؛ فَإِنَّهَا رَفَعَتِ الْغَشَاوَةَ عَنْ عَيْنَيِّ، لَقَدْ بَدَأْتُ أُمَيِّزُ عَالَمًا مِنَ الْحِكْمَةِ كُنْتُ حَتَّى ذَلِكَ الْحِينِ أَجْهَلُهُ جَهْلًا كُلِّيًّا».
قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَبَدَا لِي الْإِسْلَامُ طَرِيقًا يَقِينِيًّا فِي الْحَيَاةِ، وَمِنْهَاجًا لِلسُّلُوكِ الذَّاتِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ قَائِمًا عَلَى ذِكْرِ اللهِ، لَا يُجِيزُ اتِّخَاذَ وَاسِطَةٍ بَيْنَ اللهِ وَعَبْدِهِ مِنْ أَجْلِ الْخَلَاصِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَعْوَى عَنْ خَطِيئَةٍ أُولَى مَوْرُوثَةٍ تَقِفُ بَيْنَ الْفَرْدِ وَمَصِيرِهِ، ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)).
قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَصِفُ انْطِبَاعَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ مِنْ حَجَّاتِهِ الْخَمْس، قَالَ: «هَذِهِ إِذَنِ الْكَعْبَةُ الَّتِي كَانَتْ وَلَا تَزَالُ مَحَطَّ أَشْوَاقِ الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ مِنَ النَّاسِ مِنْذُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ (سلم2) بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى.
إِنَّ حُجَّاجًا لَا يُحصَوْنَ وَلَا يُعَدُّونَ قَدْ بَذَلُوا تَضْحِيَاتٍ عَظِيمَةً عَبْرَ الْعُصُورِ لِلْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْمَحَجَّةِ -يَعْنِي الْكَعْبَةَ الْمُشَرَّفَةَ–، فَمَاتَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، وَبَلَغَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَشَقَّةٍ كُبْرَى وَفِي أَعْيُنِهِمْ جَمِيعًا كَانَ ذَلِكَ الْمَبْنَى الْمُرَبَّعُ ذُرْوَةَ آمَالِهِمْ وَغَايةَ أَحْلَامِهِمْ».
يَقُولُ نَافِذًا إِلَى حَقِيقَةِ الدِّينِ، وَهُوَ الرَّجُلُ الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي تَرَبَّى عَلَى عَقَائِدِ يَهُودَ، دِرَاسَةً مُمَحِّصَةً، وَفِي كَنَفِ رَجُلٍ كَانَ أَبُوهُ حَاخَامًا، وَكَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى تَقَالِيدِ أُسْرَتِهِمْ فِي انْتِمَائِهِمْ وَمُعْتَقَدِهِمْ، يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِ الَّتِي لَا تُحِسُّ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ اللهِ».
هَذِهِ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ.
فَهُوَ الَّذِي كَرَّمَهَا، وَهُوَ الَّذِي أَقَامَهَا أَوْ رَفَعَهَا وَشَرَّفَهَا، وَهُوَ الَّذِي فَرَضَ الْحَجَّ إِلَيْهَا، فَمِنْ أَجْلِ اللهِ وَحْدَهُ سَعْيُهُمْ وَكِفَاحُهُمْ وَعَنَاؤُهُمْ وَتَعَبُهُمْ، بَلْ وَمَوْتُهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ.
((مَظَاهِرُ الِاسْتِسْلَامِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ))
((الِاسْتِسْلَامُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- شَاخِصًا فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ))
((إِنَّ الْمَشَاعِرَ وَمَوَاضِعَ الْأَنْسَاكِ -فِي الْحَجِّ- مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ فِيهَا؛ أَنَّ فِيهَا تَذْكِيرَاتٍ بِمَقَامَاتِ الْخَلِيلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فِي عِبَادَاتِ رَبِّهِمْ، وَإِيمَانًا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَحَثًّا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ، وَكُلُّ أَحْوَالِ الرُّسُلِ دِينِيَّةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] » .
((لَمَّا وَهَبَ مَلِكُ مِصْرَ لِسَارَّةَ هَاجَرَ -وَهِيَ جَارِيَةٌ قِبْطِيَّةٌ-، وَكَانَتْ سَارَّةُ عَاقِرًا مُنْذُ كَانَتْ شَابَّةً، فَوَهَبَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لِإِبْرَاهِيمَ لِيَتَسَرَّرَهَا لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُهُ مِنْهَا وَلَدًا، فَأَتَتْ هَاجَرُ بِإسْمَاعِيلَ عَلَى كِبَرِ إِبْرَاهِيمَ، فَفَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلَكِنَّ سَارَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَدْرَكَتْهَا الْغَيْرَةُ فَحَلَفَتْ أَنْ لَا يُسَاكِنَهَا بِهَا، وَذَلِكَ لِمَا يُرِيدُه اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ لِذَهَابِه بِهَا إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَهُ ذَلِكَ –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
فَذَهَبَ بِهَا وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهَا سَكَنٌ وَلَا مَسْكَنٌ وَلَا مَاءٌ وَلَا زَرْعٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَزَوَدَهُمَا بِسِقَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَجِرَابٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَوَضَعَهُمَا عِنْدَ دَوْحَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مَحِلِّ بِئْرِ زَمْزَم، ثُمَّ قَفَّى عَنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّنِيَّةِ بِحَيْثُ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا دَعَا اللهَ تَعَالَى فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم : 37] إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ.
ثُمَّ اسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ اللهِ، وَجَعَلَتْ تَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى نَفِدَا، فَعَطِشَتْ، ثُمَّ عَطِشَ وَلَدُهَا فَجَعَلَ يَتَلَوَّى مِنَ الْعَطَشِ، ثُمَّ ذَهَبَتْ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَعَلَّهَا تَرَى أَحَدًا أَوْ تَجِدُ مُغِيثًا، فَصَعِدَتْ أَدْنَى جَبَلٍ مِنْهَا وَهُوَ الصَّفَا، وَتَطَلَّعَتْ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الْمَرْوَةِ فَصَعِدَتْ عَلَيْهِ فَتَطَلَّعَتْ، فَلَمْ تَرَ أحدًا.
ثُمَّ جَعَلَتْ تَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهِيَ مَكْرُوبَةٌ مُضْطَرَّةٌ مُسْتَغِيثَةٌ بِاللهِ لَهَا وَلِابْنِها، وَهِيَ تَمْشِي وَتَلْتَفِتُ إِلَيْهِ خَشْيَةَ السِّبَاعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا هَبَطَتِ الْوَادِي سَعَتْ حَتَّى تَصْعَدَ مِنْ جَانِبِهِ الِآخَرِ؛ لِئَلَّا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهَا ابْنُهَا.
وَالْفَرَجُ مَعَ الْكَرْبِ، وَالْعُسْرُ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ، فَلَمَّا تَمَّتْ سَبَعَ مَرَّاتٍ تَسَمَّعَتْ حِسَّ الْمَلَكِ، فَبَحَثَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ زَمْزَمُ فَنَبَعَ الْمَاءُ، فَاشْتَدَّ فَرَحُ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ بِهِ.
فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، وَحَمِدَتِ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى، وَحَوَّطَتْ عَلَى الْمَاءِ لِئَلَّا يَسِيحَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ مَاءَ زَمْزَمَ -أَيْ: لَمْ تَحُطْهُ-؛ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا -أَيْ مَاءً ظَاهِرًا-».
ثُمَّ عَثَرَ بِهَا قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُمْ (جُرْهُمُ)، فَنَزَلُوا عِنْدَهَا وَتَمَّتْ عَلَيْهَا النِّعْمَةُ، وَشَبَّ إِسْمَاعِيلُ شَبَابًا حَسَنًا، وَأَعْجَبَ الْقَبِيلَةَ بَأَخْلَاقِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَكَمَالِه، فَلَمَّا بَلَغَ تَزَوَّجَ مِنْهُمُ امْرَأَةً، فَفِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَاتَتْ أُمُّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِغَيْبَةِ إِسْمَاعِيلَ يَتَصَيَّدُ -مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً-.
فَلَمَّا عَادَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ فَوَجَدَ إِسْمَاعِيلَ يَبْرِي نَبْلًا عِنْدَ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ الشَّفِيقُ وَالْوَلَدُ الشَّفِيقُ.
فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ! إِنَّ اللهَ أَمَرَني أَنْ أَبْنيَ هَاهُنَا بَيْتًا يَكُونُ مَعْبَدًا لِلْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ: سَأُعِينُكَ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127 -129] .
فَلَمَّا تَمَّ بُنْيَانُهُ، وَتَمَّ لِلْخَلِيلِ هَذَا الْأَثَرُ الْجَلِيلُ؛ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَدْعُو النَّاسَ وَيُؤَذِّنَ فِيهِمْ بِحَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، فَجَعَلَ يَدْعُو النَّاسَ وَهُمْ يَفِدُونَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَيَسْعَدُوا، وَلِيَزُولَ عَنْهُمْ شَقَاؤُهُمْ.
وَفِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ حِينَ تَمَكَّنَ حُبُّ إِسْمَاعِيلَ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَمْتَحِنَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ لِتَقْدِيمِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ وَخُلَّتِهِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْمُشَارَكَةَ وَالْمُزَاحَمَةَ.
فَأَمَرَهُ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَذْبَحَ إِسْمَاعِيلَ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ، فَقَالَ لِإِسْمَاعِيلَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا}؛ أَيْ: خَضَعَا لِأَمْرِ اللهِ، وَانْقَادَا لِأَمْرِهِ تَعَالَى، وَوَطَّنَا أَنْفُسَهُمَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمُزْعِجِ الَّذِي لَا تَكَادُ النُّفُوسُ تَصْبِرُ عَلَى عُشْرِ مِعْشَارِهِ.
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} نَزَلَ الْفَرَجُ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104-105].
فَحَصَلَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلْوَى الشَّاقَّةِ الْمُزْعِجَةِ، وَحَصَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ وَالْجَزْمُ الْمُصَمِّمُ، وَتَمَّ لَهُمَا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ، وَحَصَلَ لَهُمَا الشَّرَفُ وَالْقُرْبُ وَالزُّلْفَى مِنَ اللهِ، وَمَا ذَلِكَ مِنْ أَلْطَافِ الرَّبِ بِعَزِيزٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 105 -107].
وَأيُّ ذِبْحٍ أَعْظَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا يُشْبِهُهَا عِبَادَة، وَصَارَ سُنَّةً فِي عَقِبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ، وَيُدْرَكُ بِهِ ثَوَابُهُ وَرِضَاهُ: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108-109].
ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَرَحِمَ زَوْجَتَهُ سَارَّةَ عَلَى الْكِبَرِ وَالْعُقْمِ وَالْيَأْسِ بِالبِشَارَةِ بِالِابْنِ الْجَلِيلِ وَهُوَ إِسْحَاقُ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ» .
((التَّسْلِيمُ للهِ مُجَسَّدًا فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ))
لَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)) ، وَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِيمَانَ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَادِيًا، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْإِيمَانِ يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اتْرُكْ أَهْلَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: غَادِرْ وَطَنَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اخْلَعْ ثَوْبَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: طُفْ بِالْبَيْتِ سَبْعًا.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: انْحَرْ هَدْيَكَ.
يَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: احْلِقْ رَأْسَكَ.
يَقُولُ: نَعَمْ.
يَجْعَلِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ هَكَذَا، وَعَلَى اسْتِجَابَةٍ مِنْ عَبْدِهِ هَكَذَا.
النَّبِيُّ ﷺ حَجَّ فِي الْإِسْلَامِ حَجَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
وَقَدْ عَلَّلَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- ذَلِكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَلَاعَبُونَ بِالشُّهُورِ، وَكَانَ النَّسَأَةُ يُؤَخِّرُونَ وَيُقَدِّمُونَ؛ فَاخْتَلَّ مِيزَانُ السَّنَةِ عَمَّا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ وَقَعَتْ فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ.
فَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَشَهِدَ الْمَوْسِمَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَأَخْبَرَ ((أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)) .
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَعَادَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْدَلَ أَحْوَالِهَا كَمَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ زَمَانَ التَّلَاعُبِ بِالْأَشْهُرِ قَدْ مَضَى وَلَنْ يَعُودَ.
النَّبِيُّ ﷺ يُذَكِّرُنَا حَجُّهُ بِمَا كَانَ قَبْلُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَبِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَبِالْمَشَاعِرِ وَالْمَنَاسِكِ كُلِّهَا وَيُعْلِنُ التَّوْحِيدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُقَبِّلُ حَجَرًا، وَيَرْجُمُ حَجَرًا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ يُطِيعُ رَبَّهُ وَيَدْعُو إِلَى دِينِهِ مُتَمَسِّكًا بِهُ، صَابِرًا عَلَى الْأَذَى فِيهِ.
فَالْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.
((مَظَاهِرُ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ))
*تَمْهِيدٌ:
لَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : (({فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}؛ أَيْ: ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}: مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللهِ.
{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانِ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا للهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).
فَجَمَعَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شَرْطَيْ قَبُولِ الْعَمَلِ؛ وَهُمَا: الْإِخْلَاصُ، وَالْمُتَابَعَةُ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا:
فَمِنَ الْكِتَابِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
وَمِنَ السُّنَّةِ: قولُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ, وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى, فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكذلك قَوْلُهُ ﷺ: ((قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ, فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وابْنُ مَاجَهْ فِي ((سُنَنِهِ)) وَاللَّفْظُ لَهُ.
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي؛ فَهُوَ: تَجْرِيدُ المُتَابَعَةِ لِلْمَعْصُومِ ﷺ:
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمُتَابَعَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه فَهُوَ رَدٌّ)).
يَعْنِي: فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
فَاللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ.
وَالْحَجُّ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْ أَجَلِّ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَهُوَ مِنَ الْأَرْكَانِ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ دِينُ الْعَبْدِ إِلَّا بِهَا.
وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَادَةُ لَا يَسْتَقِيمُ التَّقَرُّبُ بِهَا إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَا تَكُونُ مَقْبُولَةً لَدَيْهِ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، بِأَنْ يَقْصِدَ بِالْعِبَادَةِ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، لَا يَقْصِدُ بِالْعِبَادَةِ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً.
وَالثَّانِي: اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعِبَادَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا.
وَالِاتِّبَاعُ لِلنَّبِيِّ ﷺ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ بِمَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِذَلِكَ كَانَ لَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَ الِاتِّبَاعِ أَنْ يَتَعَلَّمَ سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ، بِأَنْ يَتَلَقَّاهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا، إِمَّا بِطَرِيقِ الْمُكَاتَبَةِ، وَإمَّا بِطَرِيقِ الْمُشَافَهَةِ.
وَكَانَ مِنْ وَاجِبِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ وَرِثُوا النَّبِيَّ ﷺ، وَخَلَفُوهُ فِي أُمَّتِهِ؛ أَنْ يُطَبِّقُوا عِبَادَاتِهِمْ وَأَخْلَاقَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ عَلَى مَا عَلِمُوهُ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
وَأَنْ يُبَلِّغُوا ذَلِكَ إِلَى أُمَّتِهِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ؛ لِيَتَحَقَّقَ لَهُمْ مِيرَاثُ النَّبِيِّ ﷺ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَتَبْلِيغًا وَدَعْوَةً.
وَلِيَكُونُوا بِذَلِكَ مِنَ الرَّابِحِينَ إِنْ أَرَادُوا الرِّبْحَ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مُفْلِحًا إِلَّا إِذَا آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، وَتَوَاصَى مَعَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَقِّ، وَتَوَاصَى مَعَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّبْرِ، فَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ دُنْيَا وَآخِرَةً.
يَنْبَغِي لِمَنْ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ؛ لِتَكُونَ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ وَنَفَقَاتُهُ مُقَرِّبَةً لَهُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَـ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)).
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ؛ كَالْكَرَمِ، وَالسَّمَاحَةِ، وَالشَّهَامَةِ، وَالِانْبِسَاطِ إِلَى رُفْقَتِهِ، وَإِعَانَتِهِمْ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى قِيَامِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.
((تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي الْحَجِّ))
إِنَّ الْحَجَّ مَيْدَانٌ فَسِيحٌ مِنْ مَيَادِينِ غَرْسِ الْعَقِيدَةِ فِي الْقُلُوبِ, وَالْمُتَأَمِّلُ لِآيَاتِ الْحَجِّ يَجِدُ رُكْنَيْنِ مُهِمَّيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ فِيهَا، وَهُمَا: ((الْإِيمَانُ بِاللهِ الْمُتَمَثِّلُ فِي التَّوْحِيدِ, وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)).
وَهُمَا مِنْ أَدَلِّ الْأَرْكَانِ عَلَى سَلَامَةِ الْعَقِيدَةِ وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ, فَلَنْ تَسْلَمَ الْعَقِيدَةُ، وَلَنْ يَزِيدَ الْإِيمَانُ إِلَّا بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلْمَعْبُودِ الْحَقِّ -جَلَّ وَعَلَا-, وَنَفْيِ غَيْرِهِ مِنَ الْآلِهَةِ.
وَلَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا آمَنَ النَّاسُ بِأَنَّ هُنَاكَ بَعْثًا وَجَزَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَبِذَلِكَ يُحْسِنُوا التَّوْجُّهَ للهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ؛ رَغْبَةً فِي جَزَائِهِ، وَرَهْبَةً مِنْ عِقَابِهِ.
وَلِذَا نَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْرِنُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ, وَذَلِكَ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا فِي كِتَابِهِ فِي ثَمَانِي سُوَرٍ؛ وَمِنْ ذَلِكَ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 62].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 39].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2].
وَنَجِدُ هَذَا الِاقْتِرَانَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَمِنْ ذَلِكَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) - قَوْلُهُ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَجَاءَ الْحَجُّ؛ لِيُرَبِّيَ النَّاسَ عَلَى هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْمُهِمَّيْنِ؛ لِتَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الْكَامِلَةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
((الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ فِي آيَاتِ الْحَجِّ))
الْأَمْرُ بِالتَّوْحِيدِ, وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ بِاللهِ فِي آيَاتِ الْحَجِّ؛ فَمِنْ خِلَالِ النَّظَرِ إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَتِ الْحَجَّ, أَوِ الَّتِي تُؤَدَّى فِيهَا فَرِيضَةُ الْحَجِّ؛ نَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَكَّزَ عَلَى تِبْيَانِ التَّوْحِيدِ وَأَمَرَ بِهِ فِي مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ، وَآيَاتٍ عِدَّةٍ.
فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هَيَّأَ تِلْكَ الْبُقْعَةَ الْمُبَارَكَةَ، وَطَهَّرَهَا مِنَ الشِّرْكِ؛ إِعْلَانًا بِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ شِعَارُ الْحَجِّ, وَشِعَارُ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُؤَدَّى فِيهَا الْحَجُّ, وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ, وَأَمَرَهُ بِتَطْهِيرِهَا مِنَ الشِّرْكِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- أَنْ يَبْنِيَا الْكَعْبَةَ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لِلطَّائِفِينَ بِهِ, وَالْعَاكِفِينَ عِنْدَهُ، وَالْمُصَلِّينَ لَهُ مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ)).
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : ((هَذَا فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللهِ، وَأَشْرَكَ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أُسِّسَتْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ؛ أَيْ: أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ)).
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((أَيْ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمَا وَأَمَرْنَاهُمَا بِتَطْهِيرِ بَيْتِ اللهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ)).
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ : ((أَمَرْنَاهُمَا وَأَوْصَيْنَا إِلَيْهِمَا {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي} مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرَّيْبِ)).
وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- ضِمْنَ آيَاتِ الْحَجِّ بِاجْتِنَابِ الشِّرْكِ, فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى ضِمْنَ آيَاتِ الْحَجِّ بِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانِ, وَأَمَرَ بِالِالْتِزَامِ بِالْحَنِيفِيَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30-31].
قَالَ الْوَاحِدِيُّ : (({فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}؛ يَعْنِي: عِبَادَتَهَا {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} يَعْنِي: الشِّرْكَ بِاللهِ)).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : (({مِنْ} هَا هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ؛ أَيِ: اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ)).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحَج: 31].
قَالَ السَّعْدِيُّ : ((أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا {حُنَفَاءَ لِلَّهِ}؛ أَيْ: مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ وَعَلَى عِبَادَتِهِ، مُعْرِضِينَ عَمَّا سِوَاهُ.
{غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} فَمَثَلُهُ: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ}؛ أَيْ: سَقَطَ مِنْهَا {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} بِسُرْعَةٍ {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}؛ أَيْ: بَعِيدٍ.
كَذَلِكَ الْمُشْرِكُ، فَالْإِيمَانُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاءِ مَحْفُوظَةٍ مَرْفُوعَةٍ, وَمَنْ تَرَكَ الْإِيمَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، فَإِمَّا أَنْ تَخْطَفَهُ الطَّيْرُ فَتُقَطِّعَهُ أَعْضَاءً.
فَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ؛ إِذَا تَرَكَ الِاعْتِصَامَ بِالْإِيمَانِ تَخَطَّفَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَمَزَّقُوهُ، وَأَذْهَبُوا عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ, وَإِمَّا أَنْ تَهْوِيَ بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)).
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ, وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلَّةُ كُلِّ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ:
قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحَجّ: 34].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : ((يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ عَلَى اسْمِ اللهِ مَشْرُوعًا فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا}؛ أَيْ: مَعْبُودُكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَسَخَ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَالْجَمِيعُ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَهُ أَسْلِمُوا}؛ أَيْ : أَخْلِصُوا وَاسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِهِ وَطَاعَتِهِ)).
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَمِنْهَا: النُّسُكُ:
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
«يَأْمُرُهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ, وَيَذْبَحُونَ لِغَيرِ اسْمِهِ؛ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ للهِ, وَنُسُكَهُ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» .
قَالَ الْوَاحِدِيُّ : ((عِبَادَتِي مِنْ حِجِّي وَقُرْبَانِي للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)).
«قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((الْمُرَادُ بِالنُّسُكِ, هَا هُنَا: النَّحْرُ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَتَقَرَّبُونَ لِأَصْنَامِهِمْ بِعِبَادَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ: هِيَ النَّحْرُ, فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ صَلَاتَهُ وَنَحْرَهُ كِلَاهُمَا خَالِصٌ للهِ تَعَالَى)).
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((النُّسُكُ: جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ , وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّحْرُ))» .
وَبَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ؛ لِتَطْهِيرِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الشِّرْكِ:
قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
«أَيْ: عِلَّةُ الْإِيحَاءِ هِيَ إِنْذَارُكَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى -مَكَّةَ- وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى؛ أَيْ: تُخَوِّفُهُمْ عَذَابَ اللهِ إِنْ بَقَوْا عَلَى الشِّرْكِ» .
وَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْمِشْرَكَ لَا يُعَظِّمُ حُرُمَاتِ اللهِ وَلَا شَعَائِرَهُ, فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].
فَشِرْكُ الْمِشْرِكِينَ وَإِصْرَارُهُمْ عَلَيْهِ؛ جَعَلَهُمْ لَا يُعَظِّمُونَ شَعَائِرَ اللهِ وَحُدُودَهُ, وَهَذَا ذَمٌّ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَجَعَلَ اللهُ الْبَيْتَ أَحَدَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].
«يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ {جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}، يَقُومُ بِالْقِيَامِ بِتَعْظِيمِهِ دِينُهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَبِذَلِكَ يَتِمُّ إِسْلَامُهُمْ، وَبِهِ تُحَطُّ أَوْزَارُهُمْ، وَتَحْصُلُ لَهُمْ بِقَصْدِهِ الْعَطَايَا الْجَزِيلَةُ، وَالْإِحْسَانُ الْكَثِيرُ، وَبِسَبَبِهِ تُنْفَقُ الْأَمْوَالُ، وَتُتَقَحَّمُ مِنْ أَجْلِهِ الْأَهْوَالُ.
وَكَذَلِكَ جَعَلَ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ -الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْهَدْيِ- قِيَامًا لِلنَّاسِ، يَنْتَفِعُونَ بِهِمَا، وَيُثَابُونَ عَلَيْهِمَا.
{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ فَمَنْ عِلْمِهِ أَن جعل لَكُمْ هَذَا الْبَيْت الحرام، لما يعلمه مِنْ مَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ» .
وَإِذَا عَرَفَ النَّاسُ صِفَةَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى, وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَائِمُ بِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ؛ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ إِلْزَامُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ للهِ وَحْدَهُ, وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الْعَظِيمَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالشِّرْكِ, قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19].
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((لَمَّا اخْتَلَفَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ -أَوْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضُ الْمِشْرِكِينَ- فِي تَفْضِيلِ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ بِالْبِنَاءِ, وَالصَّلَاةِ, وَالْعِبَادَةِ فِيهِ, وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ -لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِ ذَلِكَ- عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}؛ أَيْ: سَقْيَهُمُ الْمَاءَ مِنْ زَمْزَمَ -كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ إِذَا أُطْلِقَ هَذَا الِاسْمُ أَنَّهُ الْمُرَادُ- {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}.
فَالْجِهَادُ وَالْإِيمَانُ بِاللهِ أَفْضَلُ مِنْ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُ الدِّينِ، وَبِهِ تُقْبَلُ الْأَعْمَالُ، وَتَزْكُو الْخِصَالُ.
وَأَمَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ: فَهُوَ ذُرْوَةُ سَنَامِ الدِّينِ، الَّذِي بِهِ يُحْفَظُ الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ وَيَتَّسِعُ، وَيُنْصَرُ الْحَقُّ، وَيُخْذَلُ الْبَاطِلُ.
وَأَمَّا عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, وَسِقَايَةُ الْحَاجِّ: فَهِيَ -وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالًا صَالِحَةً- فَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا فِي الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ أَيِ: الَّذِينَ وَصْفُهُمُ الظُّلْمُ، الَّذِينَ لَا يَصْلُحُونَ لِقَبُولِ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، بَلْ لَا يَلِيقُ بِهِمْ إِلَّا الشَّرُّ)).
((الْحَجُّ إِعْلَانٌ بِالتَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
النَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى عِظَمِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ وَهَذِهِ الْفَرِيضَةِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَأْتِ بِبِدْعٍ مِنَ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالدَّعْوَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ مِنْ قَبْلِهِ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَالْحَجُّ مِنْ أَجْلَى مَجَالِي تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْسَلِخُ مِنْ مَأْلُوفِ عَادَاتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَانِهِ وَأَحِبَّائِهِ؛ ضَارِبًا فِي أَرْضِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَاصِدًا بَيْتَهُ الْحَرَامَ؛ تَلْبِيَةً لِمَا أَمَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، آتِيًا بِإِعْلَانِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ: ((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ..)): إِجَابَةً مِنْ بَعْدِ إِجَابَةٍ، ((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ))، وَهُوَ اسْتِعْلَانٌ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَحْدَهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.
((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)).
فَفِي هَذَا -كَمَا تَرَى- أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ إِعْلَانِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَمَرَنَا بِالْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ الْعَظِيمَةِ، أَمَرَنَا بِأَنْ نَأْتِيَ بِهَا تَامَّةً لَهُ وَحْدَهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، لَا لِسِوَاهُ.
فَهَذَا اخْتِصَاصٌ بِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا لَا يَنْصَرِفُ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِخْلَاصِ النِّيَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَهَلَّ بِالْحَجِّ قَالَ: ((لَبَّيْكَ حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةً)) .
فَهُوَ ((إِعْلَانٌ بِالتَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى، وَهُوَ بَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ، وَهُوَ تَوْحِيدٌ بِالْقَلْبِ وَالْقَالَبِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى حَيْثُ أَمَرَ أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ.
النَّبِيُّ ﷺ حَجَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ، الَّتِي جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا)).
قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟
قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ؛ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ» .
فَهُوَ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَفِي يَوْمِ عِيدٍ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَتْ يَهُودُ.
وَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الدِّينَ، فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَأَتَمَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ رَبَّهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَإِنَّهُ لَجَحُودٌ كَفُورٌ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ كَمَا ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي ((تَفْسِيرِهِ)) مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، لَمْ تَتَحَمَّلْهَا الْعَضْبَاءُ، فَبَرَكَتْ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ .
إِنَّ إِعْلَانَ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ، وَإِخْلَاصَ الْقَصْدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، مُنْذُ انْبِعَاثِ النِّيَّةِ بِالْحَجِّ، مَعَ الْإِهْلَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ، مَعَ الْخُرُوجِ مِنَ الْأَوْطَانِ إِلَى بَلَدِ اللهِ الْحَرَامِ، إِلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ.
إِنَّ عِظَمَ الصِّلَةِ بِاللهِ تَعَالَى, وَقُوَّةَ الِارْتِبَاطِ بِهِ ثَرْوَةُ الْمُتَّقِينَ, وَرَأْسُ مَالِ الْعَابِدِينَ, وَيُعَدُّ الْحَجُّ مِنْ أَهَمِّ مَحَاضِنِ التَّقْوَى، وَمَدَارِسِ الْعُبُودِيَّةِ.
تَتَقَوَّى فِيهِ صِلَةُ الْعَبْدِ بِاللهِ, وَتَتَرَبَّى بِهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى التَّقَلُّبِ فِي مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ, وَمَنَازِلِ الْخُضُوعِ للهِ, وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَقَدْ قَامَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ -وَهُوَ أَعْبَدُ النَّاسِ لِرَبِّهِ, وَأَكْثَرُهُمْ تَعَلُّقًا وَارْتِبَاطًا بِهِ- بِأَدْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ إِذْ عَلَّمَ الْحَجِيجَ وَقَادَهُمْ, وَاعْتَنَى بِزَوْجَاتِهِ وَرَعَاهُنَّ, وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِمْ.
وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِظَمِ الصِّلَةِ بِرَبِّهِ وَدَوَامِهَا, وَلَمْ يَشْغَلْهُ عَنْ الِانْكِسَارِ التَّامِّ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ.
وَلَوْ أَخَذْنَا نُعَدِّدُ صُوَرَ خُضُوعِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَجِّ لِرَبِّهِ, وَمَظَاهِرَ انْقِيَادِهِ فِيهِ لِخَالِقِهِ وَبَارِئِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لَطَالَ الْمَقَامُ جِدًّا؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
*تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، وَالْعِنَايَةُ بِهِ:
يُعَدُّ التَّوْحِيدُ أَبْرَزَ الْقَضَايَا الرَّئِيسَةِ الَّتِي عَمِلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَجِّ عَلَى تَحْقِيقِهَا وَالْعِنَايَةِ بِهَا؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196], الَّذِي تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِإِخْلَاصِ النُّسُكِ وَإِتْقَانِهِ, وَهَذَا جَلِيٌّ لِمَنْ تَأَمَّلَ أَعْمَالَهُ ﷺ فِي الْحَجِّ.
((مَعَالِمُ التَّوْحِيدِ فِي النِّيَّةِ لِلْحَجِّ))
إِنَّ مِنْ أَبْرَزِ مَا ظَهَرَ فِيهِ تَوْحِيدُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: عِنَايَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ, وَسُؤَالُهُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُجَنِّبَهُ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا، قَالَ: ((اللهم حَجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةً)) .
الْحَجُّ شِعَارُهُ التَّوْحِيدُ, فَالتَّوْحِيدُ شِعَارُ الْحَجِّ, وَمَقَاصِدُ الْحَجِّ, وَالْأَضَاحِي, وَكَذَا الهَدْيُ وَجْهُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَتَوْحِيدُهُ, وَذِكْرُهُ, وَتَقْوَى الْقُلُوبِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
أَدُّوا مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا تَامَّيْنِ بِحُدُودِهِمَا وَسُنَنِهِمَا؛ لَوَجْهِ اللهِ تَعَالَى.
وَعِنْدَ التَّلْبِيَةِ يَقُولُ الْمُسْلِمُ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ حَجًّا لَا رِيَاءَ فِيهِ، وَلَا سُمْعَةً)) .
قَالَ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحَجّ: 27].
أَيْ: وَقِفْ يَا إِبْرَاهِيمُ رَافِعًا صَوْتَكَ، مُنَادِيًا النَّاسَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ نِدَائِكَ، وَالَّذِينَ سَيَتَتَابَعُونَ أَجْيَالًا بَعْدَ أَجْيَالٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ رَبَّكَ سَيُوصِلُ أَثَرَ نِدَائِكَ إِلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَرِّكُهَا إِلَى تَلْبِيَةِ النِّدَاءِ.
قِفْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ -الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا- يَأْتِكَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُلَبِّينَ مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَيَأْتِكَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمُلَبِّينَ رُكْبَانًا عَلَى الْإِبِلِ الْمَهْزُولَةِ مِنْ بُعْدِ الْمَشَقَّةِ وَكَثْرَةِ السَّيْرِ.
يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ إِلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحَجّ: 28]: لِيَشْهَدَ الْحُجَّاجُ مَنَافِعَ لَهُمْ كَثِيرَةً دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً؛ مِنْ ثَوَابِ أَدَاءِ نُسُكِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ، وَوَحْدَةِ كَلِمَتِهِمْ، وَالتَّشَاوُرِ فِي أُمُورِهِمْ، وَتَكَسُّبِهِمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَنَافِعِ.
وَلِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى مَا ذَبَحُوا مِمَّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، وَهِيَ: ((يَوْمُ النَّحْرِ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ))؛ شُكْرًا للهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ.
فَكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، وَأَطْعِمُوا الْبَائِسِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ بُؤْسٌ وَشِدَّةٌ، الْمَسْتُورِينَ الَّذِينَ لَا شَيْءَ لَهُمْ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلصَّدَقَاتِ.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحَجّ: 29].
ثُمَّ لِيُزِيلُوا عَنْهُمْ أَدْرَانَهُمْ وَأَوْسَاخَهُمْ، وَيَخْرُجُوا عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ، وَالِاسْتِحْدَادِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ، وَلِيُوفُوا بِمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْهَدَايَا.
وَلِيَطُوفُوا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ طَوَافَ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْإِفَاضَةُ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلِأَنَّ اللهَ يُعْتِقُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ إِذَا أَتَوْا تَائِبِينَ مُسْتَغْفِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْتَقَ الْبَيْتَ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} [الحَجّ: 37].
لَنْ تُرْفَعَ إِلَى اللهِ لُحُومُ هَذِهِ الذَّبَائِحِ وَلَا دِمَاؤُهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ عِبَادَتِكُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ أَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِذَبْحِهَا لِحَاجَتِهِ إِلَى لُحُومِهَا وَدِمَائِهَا، وَلَكِنْ تُرْفَعُ إِلَيْهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَالْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ, وَالْتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ.
((مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي الْإِحْرَامِ))
مِنْ أَبْرَزِ مَا ظَهَرَ فِيهِ تَوْحِيدُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْحَجِّ الْإِحْرَام؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ؛ يَتَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ))؛ أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِحْرَامِ ﷺ.
الِاغْتِسَالُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ وَالتَّطَيُّبِ يَلْبَسُ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ يُصَلِّي-غَيْرُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ- الْفَرِيضَةَ إِنْ كَانَ فِي وَقْتِ فَرِيضَةٍ، وَإِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَنْوِيِ بِهِمَا سُنَّةَ الْوُضُوءِ, -لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ سُنَّةُ الْإِحْرَامِ- وَإِنَّمَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ.
وَبَعْدَ أَنْ يَلْبَسَ مَلَابِسَ الْإِحْرَامِ، وَبَعْدَ أَنْ يَتَطَيَّبَ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ أَحْرَمَ قَائِلًا: ((لَبَّيْكَ عُمْرَةً، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ)).
وَيَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ، خُصُوصًا عِنْدَ تَغْيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ؛ كَأَنْ يَعْلُو مُرْتَفَعًا، أَوْ يَنْزِلَ مُنْخَفَضًا، أَوْ يُقْبِلَ اللَّيْلُ أَوْ النَّهَارُ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللهَ بَعْدَهَا رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى مِنَ النَّارِ.
((أَسْرَارُ التَّوْحِيدِ وَمَعَانِيهِ فِي التَّلْبِيَةِ))
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَرَضَ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ الْحَجَّ فَرِيضَةَ الْعُمُرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَفْرُوضٌ عَلَى الْمُسْلِمِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي حَيَاتِهِ، وَشِعَارُ الْحَجِّ التَّلْبِيَةُ.
- وَمِنْ أَبْرَزِ مَا ظَهَرَ فِيهِ تَوْحِيدُ اللهِ فِي الْحَجِّ: التَّلْبِيَةُ؛ وَهِيَ شِعَارُ الْحَجِّ, الَّتِي تَتَضَمَّنُ إِفْرَادَ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِالْعَمَلِ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ - قَالَ: ((فَأَهَلَّ ﷺ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ, لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ, إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ)) .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ)) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ فِي تَلْبِيَتِهِ: ((لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ)) .
((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ)): يَقُولُهَا وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ، وَيُعْلِنُ هَذَا الْإِهْلَالَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ إِهْلَالٌ بِتَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ لَهُ، مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ كُلِّهِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، دَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، كَبِيرِهِ وَصَغِيرِهِ.
وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْمُسْلِمُ حَقِيقَةَ الشِّرْكِ الَّذِي يَتَبَرَّأُ مِنْهُ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ.
((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ)): يَأْتِي بِهَا مُثْبِتًا أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ وَمُشْرِكٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُحِبُّ الْمُشْرِكِينَ، وَلِأَنَّ أَعْظَمَ ذَنْبٍ عُصِيَ بِهِ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الشِّرْكُ.
وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ؛ لَيَدُلُّوا الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ بِتَوْحِيدِهِ وَحْدَهُ، وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ، مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ وَمُشْرِكٍ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُهِلُّ بِالتَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ))
إِنَّ هَذِهِ التَّلْبِيَةَ الْعَظِيمَةَ -الَّتِي هِيَ شِعَارُ الْحَاجِّ وَشِعَارُ الْمُعْتَمِرِ أَيْضًا- بَيَّنَ الْإِمْامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ((تَهْذِيبِ السُّنَنِ)) بَعْضًا مِنْ فَوَائِدِهَا، وَدَلَّ عَلَى طَرَفٍ مِنْ مَعَانِيهَا، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- :
«مِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أنَّ قَوْلَكَ لَبَّيْكَ يَتَضَمَّنُ إِجَابَةَ دَاعٍ دَعَاكَ وَمُنَادٍ نَادَاكَ، وَلَا يَصِحُّ فِي لُغَةٍ وَلَا عَقْلٍ إِجَابَةُ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَدْعُو مَنْ أَجَابَهُ؛ فَفِي هَذَا إِثْبَاتُ صِفَةِ الْكَلَامِ للهِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ -وَهِيَ التَّلْبِيَةُ، وَهِيَ شِعَارُ الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ-: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْمَحَبَّةَ، وَلَا يُقَالُ لَبَّيْكَ إِلَّا لِمَنْ تُحِبُّهُ وَتُعَظِّمُهُ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا: أَنَا مُوَاجِهٌ لَكَ بِمَا تُحِبُّ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ؛ أَيْ مُحِبَّةٌ لِوَلَدِهَا.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ دَوَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلِهَذَا قِيلَ هِيَ مِنَ الْإِقَامَةِ؛ أَيْ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ.
مِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ وَالذُّلَّ؛ أَيْ خُضُوعًا بَعْدَ خُضُوعٍ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَا مُلَبٍّ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ أَيْ خَاضِعٌ لَكَ ذَلِيلٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِخْلَاصَ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ اللُّبِّ وَهُوَ خَالِصُ الشَّيْءِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِسَمْعِ الرَّبِّ تَعَالَى، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لَبَّيْكَ لِمَنْ لَا يَسْمَعُ دُعَاءَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّقَرُّبَ مِنَ اللهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا مِنَ الْإِلْبَابِ وَهُوَ التَّقَرُّبُ.
وَمِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ: أَنَّهَا جُعِلَتْ فِي الْإِحْرَامِ شِعَارًا لِانْتِقَالٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ مَنْسَكٍ إِلَى مَنْسَكٍ كَمَا جُعِلَ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ سَبْعًا لِلْانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ، وَلِهَذَا كَانَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُلَبِّيَ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الطَّوَافِ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، ثُمَّ إِذَا سَارَ لَبَّى حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَيَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَقِفَ بِمُزْدَلِفَةَ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَقْطَعَهَا.
فَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ، وَالتَّنَقُّلُ فِي أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ.
فَالْحَاجُّ يَرمي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، فَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ وَالتَّنَقُّلِ فِي أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ، كُلَّمَا انْتَقَلَ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ قَالَ: ((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ))، كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّي يَقُولُ فِي انْتِقَالِهِ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ: ((اللهُ أَكْبَرُ)).
فَإِذَا حَلَّ مِنْ نُسُكِهِ قَطَعَهَا كَمَا يَكُونُ سَلَامُ الْمُصَلِّي قَاطِعًا لِتَكْبِيرِهِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا شِعَارٌ لِتَوْحِيدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ رُوحُ الْحَجِّ وَمَقْصِدُهُ، بَلْ رُوحُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَلِهَذَا كَانَتِ التَّلْبِيَةُ مِفْتَاحَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُدْخَلُ فِيهَا بِهَا.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِمِفْتَاحِ الْجَنَّةِ وَبَابِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يُدْخَلُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ وَالشَّهَادَةُ للهِ بِأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحَمْدِ للهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحَبِّ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ، وَهُوَ فَاتِحَةُ الصَّلَاةِ وَخَاتِمَتُهُا.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاعْتِرَافِ للهِ بِالنِّعْمَةِ كُلِّهَا؛ وَلِهَذَا عَرَّفَهَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ لِلْاسْتِغْرَاقِ، أَيِ النِّعَمُ كُلُّهَا لَكَ وَأَنْتَ مُولِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا».
*وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُؤَكَّدُ الثُّبُوتِ بِـ«إِنَّ» الْمُقْتَضِيَةِ تَحْقِيقَ الْخَبَرِ وَتَثْبِيتَهُ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ رَيْبٌ وَلَا شَكٌّ، وَفِي «إِنَّ» وَجْهَانِ: فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا، فَمَنْ فَتَحَهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّعْلِيلِ؛ أَيْ: لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَمَنْ كَسَرَهَا كَانَتْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً مُسْتَأَنَفَةً، تَتَضَمَّنُ ابْتِدَاءَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ، وَالثَّنَاءُ إِذَا كَثُرَتْ جُمَلُهُ وَتَعَدَّدَتْ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ قِلَّتِهَا.
وَأَمَّا إِذَا فُتِحَتْ فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ الْمَحْذُوفَةِ مَعَهَا قِيَاسًا، وَالْمَعْنَى لَبَّيْكَ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الثَّنَاءِ عِلَّةً لِغَيْرِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً مُرَادَةً لِنَفْسِهَا فَرْقٌ بَيِّنٌ.
وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَبٌ: مَنْ قَالَ «إِنَّ» بِالكَسْرِ فَقَدْ عَمَّ، وَمَنْ قَالَ: «أَنَّ» بِالْفَتْحِ فَقَدْ خَصَّ، وَنَظِيرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالتَّعْلِيلَيْنِ -وَالتَّرْجِيحُ سَوَاءٌ- قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} بِكَسْرِ «إِنَّ» وَفَتْحِهَا.
فَمَنْ فَتَحَ كَانَ الْمَعْنَى: نَدْعُوهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، وَمَنْ كَسَرَ كَانَ الْكَلَامُ جُمْلَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ: نَدْعُوهُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْكَسْرُ أَحْسَنُ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَرَجَّحَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْمُلْكَ كُلَّهُ للهِ وَحْدَهُ، فَلَا مُلْكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِغَيْرِهِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْبَارِ عَنِ اجْتِمَاعِ الْمُلْكِ وَالنِّعْمَةِ وَالْحَمْدِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُ الثَّنَاءِ بِمُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْعَليَّةِ.
فَاجْتَمَعَ الْمُلْكُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْقُدْرَةِ مَعَ النِّعْمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِغَايَةِ النَّفْعِ وَالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ مَعَ الْحَمْدِ الْمُتَضَمِّنِ لِعَامَّةِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الدَّاعِي إِلَى مَحَبَّتِهِ، فِيهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَهُوَ أَهْلُهُ سُبْحَانَهُ.
وَفِي ذِكْرِ الْعَبْدِ لَهُ وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ مِنَ انْجِذَابِ قَلْبِهِ إِلَى اللهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَالتَّوَجُّهِ بِدَوَاعِي الْمَحَبَّةِ كُلِّهَا إِلَيْهِ؛ مَا هُوَ مَقْصُودُ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبُّهَا.
وَمِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِعَيْنِهَا وَتَضَمَّنَتْ مَعَانِيهَا.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ أَيْضًا: أَنَّ كَلِمَاتِ التَّلْبِيَةِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى كُلِّ مُبْطِلٍ فِي صِفَاتِ اللهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اخْتِلَافِ طَوَائِفِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمْ، وَمُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ، وَمَنْ تَأَثَّرَ بِهِمْ مِنَ الْمُعَطِّلِينَ لِصِفَاتِ اللهِ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ الْحَمْدِ، وَمُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ مَجُوسِ الْأُمَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ أَخْرَجُوا عَنْ مُلْكِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ أَفْعَالَ عِبَادِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَلَمْ يُثْبِتُوا لَهُ عَلَيْهَا قُدْرَةً وَلَا جَعَلُوهُ خَالِقًا لَهَا.
فَمَنْ عَلِمَ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَشَهِدَهَا وَأَيْقَنَ بِهَا بَايَنَ جَمِيعَ الطَّوَائِفِ الْمُعَطِّلَةِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ التَّلْبِيَةِ: أَنَّ فِي إِعَادَةِ الشَّهَادَةِ لَهُ بِأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَطِيفَةٌ؛ هِيَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ عَقِبَ إِجَابَتِهِ بِقَوْلِهِ: لَبَّيْكَ، ثُمَّ أَعَادَهَا عَقِبَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.
وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْحَمْدِ وَالنِّعْمَةِ وَالْمُلْكِ، وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَكَ فِي إِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ.
وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ شَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ مَلَائِكَتِهِ وَأُولِي الْعِلْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ فَأَعَادَ الشَّهَادَةَ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَعَ قِيَامِهِ بِالْقِسْطِ».
((مِنْ مَعَانِي التَّلْبِيَةِ وَأَسْرَارُ التَّوْحِيدِ فِيهَا))
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الشَّرْحِ الْمُمْتِعِ)) : ((قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمْ لَبَّيْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْك، لاَ شَرِيكَ لَكَ».
قَوْلُهُ: «لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ»؛ هَذِهِ التَّلْبِيَةُ عَظِيمَةٌ جِدًّا، أَطْلَقَ عَلَيْهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- التَّوْحِيدَ، قَالَ: «حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ».
وَالتَّوْحِيدُ هُوَ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وَ((لَبَّيْكَ)) كَلِمَةُ إِجَابَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا وَرَدَ فِي ((الصَّحِيحِ)): «أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ». وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَتَحْمِلُ التَّلْبِيَةُ مَعْنَى الْإِقَامَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَلَبَّ بِالْمَكَانِ؛ أَيْ: أَقَامَ فِيهِ، فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِجَابَةِ وَالْإِقَامَةِ، الْإِجَابَةِ للهِ، وَالْإِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: لَبَّيْكَ؛ أَيْ: أَنَا مُجِيبٌ لَكَ، مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ جَيِّدٌ.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: أَيْنَ النِّدَاءُ مِنَ اللهِ حَتَّى يُجِيبَهُ الْمُحْرِمُ؟
قُلْنَا: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحَجّ: 27]؛ أَيْ: أَعْلِمِ النَّاسَ بِالْحَجِّ أَوْ نَادِ فِيهِمْ بِالْحَجِّ {يَأْتُوكَ رِجَالًا}؛ أَيْ: عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى ضِدَّ الْإِنَاثِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ مَا بَعْدَهَا {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحَجّ: 27].
وَالتَّثْنِيَةُ فِي التَّلْبِيَةِ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمْ لَبَّيْكَ))؛ هَلِ الْمَقْصُودُ بِهَا حَقِيقَةُ التَّثْنِيَةِ؛ أَيْ أَجَبْتُكَ مَرَّتَيْنِ، أَوِ الْمَقْصُودُ بِهَا مُطْلَقُ التَّكْثِيرِ؟
الْجَوَابُ:
الْمَقْصُودُ بِهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى إِجَابَةٌ بَعْدَ إِجَابَةٍ، وَإِقَامَةٌ بَعْدَ إِقَامَةٍ، فَالْمُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ التَّكْثِيرِ؛ أَيْ: مُطْلَقُ الْعَدَدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْمُثَنَّى وَلَيْسَتْ مُثَنَّى حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا الْجَمْعُ وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ.
وَقَوْلُهُ: «اللهم» مَعْنَاهَا: يَا اللهُ! لَكِنْ حُذِفَتْ يَاءُ النِّدَاءِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ، وَجُعِلَتِ الْمِيمُ أَخِيرًا، وَلَمْ تَكُنْ فِي مَكَانِ الْيَاءِ؛ تَبَرُّكًا بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ؛ لِأَنَّ الْمِيمَ أَدَلُّ عَلَى الْجَمْعِ، وَلِهَذَا كَانَتْ مِنْ عَلَامَاتِ الْجَمْعِ؛ فَكَأَنَّ الدَّاعِيَ جَمَعَ قَلْبَهُ عَلَى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: يَا اللهُ.
وَقَوْلُهُ: «لَبَّيْكَ» الثَّانِيَةُ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ الْمَعْنَوِيِّ، هُوَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ، لَكِنْ لَهُ مَعْنًى جَدِيدٌ، فَيُكَرِّرُ وَيُؤَكِّدُ أَنَّهُ مُجِيبٌ لِرَبِّهِ مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِهِ.
((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ))، لِأَنَّكَ تُجِيبُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكُلَّمَا أَجَبْتَهُ ازْدَدْتَ إِيمَانًا بِهِ وَشَوْقًا إِلَيْهِ، فَكَانَ التَّكْرِيرُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَسْتَشْعِرَ وَأَنْتَ تَقُولُ: «لَبَّيْكَ» نِدَاءَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَكَ، وَإِجَابَتَكَ إِيَّاهُ، لَا مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ.
قَوْلُهُ: «لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ»؛ أَيْ: لَا شَرِيكَ لَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ فِي التَّلْبِيَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ؛ أَيْ: لَا شَرِيكَ لَكَ فِي مُلْكِكَ، وَلَا شَرِيكَ لَكَ فِي أُلُوهِيَّتِكَ، وَلَا شَرِيكَ لَكَ فِي أَسْمَائِكَ وَصِفَاتِكَ، وَلَا شَرِيكَ لَكَ فِي كُلِّ مَا يَخْتَصُّ بِكَ.
وَمِنْهَا إِجَابَتِي هَذِهِ الْإِجَابَةُ، فَأَنَا مُخْلِصٌ لَكَ فِيهَا، مَا حَجَجْتُ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَلَا لِلْمَالِ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، إِنَّمَا حَجَجْتُ لَكَ، وَلبَّيْتُ لَكَ فَقَطْ.
قَوْلُهُ: «إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ» بِكَسْرِ هَمْزَةِ ((إِنَّ))، وَرُوِيَتْ بِالْفَتْحِ، فَعَلَى رِوَايَةِ فَتْحِ الْهَمْزَةِ «أَنَّ الْحَمْدَ لَكَ»: تَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةً؛ أَيْ: لَبَّيْكَ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ، فَصَارَتِ التَّلْبِيَةُ مُقَيَّدَةً بِهَذِهِ الْعِلَّةِ؛ أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ.
أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ: «إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ»، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَتَكُونُ التَّلْبِيَةُ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِالْعِلَّةِ؛ بَلْ تَكُونُ تَلْبِيَةً مُطْلَقَةً بِكُلِّ حَالٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِنَّ رِوَايَةَ الْكَسْرِ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَتَكُونُ أَوْلَى؛ أَيْ: أَنْ تَقُولَ: إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَلَا تَقُلْ: أَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَلَوْ قُلْتَ ذَلِكَ لَكَانَ جَائِزًا.
وَالْحَمْدُ وَالْمَدْحُ يَتَّفَقَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ، أَيْ فِي الْحُرُوفِ دُونَ التَّرْتِيبِ (ح ـ م ـ د) مَوْجُودَةٌ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، فَهَلِ الْحَمْدُ هُوَ الْمَدْحُ، أَوْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟
الْجَوَابُ: الصَّحِيحُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا عَظِيمًا؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ.
وَالْمَدْحُ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، فَقَدْ يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ لَا يُبْنَى، قَدْ أَمْدَحُ رَجُلًا لَا مَحَبَّةَ لَهُ فِي قَلْبِي وَلَا تَعْظِيمًا، وَلَكِنْ رَغْبَةً فِي نَوَالِهِ فِيمَا يُعْطِينِي، مَعَ أَنَّ قَلْبِي لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُعَظِّمُهُ.
أَمَّا الْحَمْدُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلِهَذَا فِي تَعْرِيفِ الْحَمْدِ: هُوَ وَصْفُ الْمَحْمُودِ بِالْكَمَالِ مَحْبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ هَذَا الْحَمْدَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ إِلَّا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَ«ال» فِي ((الْحَمْدِ)) لِلِاسْتِغْرَاقِ؛ أَيْ: جَمِيع أَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ للهِ وَحْدَهُ، الْمَحَامِدُ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ، وَعَلَى دَفْعِ الضَّرَرِ، وَعَلَى حُصُولِ الْخَيْرِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، كُلُّهَا للهِ عَلَى الْكَمَالِ التَّامِّ.
وَقَوْلُهُ: «النِّعْمَةَ»؛ أَيْ: الْإِنْعَامَ، فَالنِّعْمَةُ للهِ.
وَقَوْلُهُ: «النِّعْمَةَ لَكَ» كَيْفَ تَتَعَدَّى بِاللَّامِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: النِّعْمَةَ مِنْكَ؟
الْجَوَابُ: النِّعْمَةُ لَكَ؛ يَعْنِي التَّفَضُّلَ لَكَ، فَأَنْتَ صَاحِبُ الْفَضْلِ.
*التَّلْبِيَةُ تَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ:
قَوْلُهُ: «وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ»: الْمُلْكُ شَامِلٌ لِمُلْكِ الْأَعْيَانِ وَتَدْبِيرِهَا، وَهَذَا تَأْكِيدٌ بِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ للهِ لَا شَرِيكَ لَهُ.
فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْجَلِيلَةِ وَجَدْتَهَا أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ جَابِرٌ: «أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ»، وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَعْلَمُ النَّاسِ بِالتَّوْحِيدِ.
فَقَوْلُهُ «الْمُلْكَ» مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةُ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ -أَيْضًا-؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَضَمِّنٌ لِإِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ الرُّبُوبِيَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا تَجِدُ أَحَدًا يُوَحِّدُ اللهَ فِي أُلُوهِيَّتِهِ إِلَّا وَقَدْ وَحَّدَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ.
لَكْنِ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا يُوَحِّدُهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ وَحِينَئِذٍ نُلْزِمُهُ، وَنَقُولُ: إِذَا وَحَّدْتَ اللهَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ لَزِمَكَ أَنْ تُوَحِّدَهُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ عِبَارَةَ الْعُلَمَاءِ مُحْكَمَةٌ حَيْثُ قَالُوا: «تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَضَمِّنٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ».
وَنَأْخُذُ تَوْحِيدَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: «إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ»، فَالْحَمْدُ: وَصْفُ الْمَحْمُودِ بِالْكَمَالِ مَعَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالنِّعْمَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، فَقَدْ تَضَمَّنَتْ تَوْحِيدَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَمِنْ أَيْنَ نَعْرِفَ أَنَّهُ بِلَا تَحْرِيفٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ، وَلَا تَكْيِيفٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ؟
الْجَوَابُ: مِنْ قَوْلِهِ: «لَا شَرِيكَ لَكَ»، وَالتَّمْثِيلُ شِرْكٌ، وَالتَّعْطِيلُ شِرْكٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُعَطِّلَ لَمْ يُعَطِّلْ إِلَّا حِينَ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِثْبَاتَ تَمْثِيلٌ، فَمَثَّلَ أَوَّلًا وَعَطَّلَ ثَانِيًا، وَالتَّحْرِيفُ وَالتَّكْيِيفُ مُتَضَمِّنَانِ لِلتَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْعَظِيمَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّوْحِيدِ كُلِّهِ.
وَمَع الْأَسَفِ فَأَنْتَ تَسْمَعُ بَعْضَ النَّاسِ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ يَقُولُهَا وَكَأَنَّهَا أُنْشُودَةً، لَا يَأْتُونَ بِالْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ، تَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ».
هُمْ يَقِفُونَ عَلَى «إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ!!»، ثُمَّ يَقُولُونَ: «وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ»!!
هَلْ لَهُمْ أَنْ يُكَبِّرُوا بَدَلَ التَّلْبِيَةِ إِذَا كَانَ فِي وَقْتِ التَّكْبِيرِ كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ؟
الْجَوَابُ: نَعَمْ؛ لِقَوْلِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ وَمِنَّا الْمُهِلُّ».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا يُلَبُّونَ التَّلْبِيَةَ الْجَمَاعِيَّةَ، وَلَوْ كَانُوا يُلَبُّونَ التَّلْبِيَةَ الْجَمَاعِيَّةَ لَكَانُوا كُلُّهُمْ مُهِلِّينَ أَوْ مُكَبِّرِينَ، وَلَكِنْ بَعْضُهُمْ يُكَبِّرُ، وَبَعْضُهُمْ يُهِلُّ، وَكُلٌّ يَذْكُرُ رَبَّهُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نُسُكَهُ فِي التَّلْبِيَةِ، لَكِنْ أَحْيَانًا، فَإِذَا كَانَ فِي الْعُمَرْةِ يَقُولُ: ((لَبَّيْكَ اللهم عُمْرَةً))، وَفِي الْحَجِّ: ((لَبَّيْكَ اللهم حَجًّا))، وَفِي الْقِرَانِ: ((لَبَّيْكَ اللهم عُمْرَةً وَحَجًّا)).
يُصَوِّتُ بِهَا الرَّجُلُ، وَتُخْفِيهَا الْمَرْأةُ.
قَوْلُ صَاحِبِ ((زَادِ الْمُسْتَقْنِعِ)): «يُصَوِّتُ بِهَا الرَّجُلُ»؛ أَيْ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ».
فَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ -يَعْنِي فِي التَّلْبِيَةِ- امْتِثَالًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ أَصْحَابِهِ، فَقَدْ قَالَ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنَّا نَصْرُخُ بِذَلِكَ صُرَاخًا)) ؛ يُرِيدُ التَّلْبِيَةَ.
وَلَا يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُلَبِّي مِنْ حَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا حَجَّ مُلَبِّيًّا، ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحُجَّاجِ لَا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ إِلَّا نَادِرًا!!
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَلَيْسَ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَبَّرُوا فِي سَفَرٍ مَعَهُ: «أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ -أَيْ: هَوِّنُوا عَلَيْهَا- فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ»؟.
قُلْنَا: لَكِنْ التَّلْبِيَةُ لَهَا شَأْنٌ خَاصٌّ، لِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ، فَيُصَوِّتُ بِهَا، أَوْ يُقَالُ: إِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُهَوِّنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ رَفْعًا شَدِيدًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ.
وَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ.
أَمَّا أَنْ يَأْتِي بِأَمْثَالِ هَذِهِ التَّلْبِيَاتِ -عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ- فِي الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فَاهِمًا لِمَعْنَى مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ، بَلْ رُبَّمَا قَطَعَ ثُمَّ أَتَى مَعَ مَجْمُوعِ مَنْ يَقُولُ فِي مَوْطِنٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى سَهْوِهِ وَغَفْلَةِ قَلْبِهِ.
فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْجَلِيلَةِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمًا صَحِيحًا أَوْ عِلْمًا مُقَارِبًا مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ فِي عِبَادَاتِهِ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ مِنَ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّحْمِيدَاتِ، وَكَمَا فِي أَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَمَا فِي الْصَّلَوَاتِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْحَجِّ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَهَذِهِ التَّلْبِيَاتِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي يُفِيضُ نُورَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.
((مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي الطَّوَافِ))
- مِنْ مَعَالِمِ التَّوْحِيدِ فِي الْحَجِّ: الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَمِنْ ذَلِكَ: اسْتِشْعَارُ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ بُنِيَ عَلَى التَّوْحِيدِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْ دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ﷺ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127-128].
دَعَا إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُ هَذَا الْبِنَاءَ؛ إِخْلَاصًا مِنْهُ لِرَبِّهِ, فَلَمْ يَبْنِ ذَلِكَ الْبِنَاءَ مِنْ أَجْلِ مَطْمَعٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ, وَكَذَلِكَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مُسْتَسْلِمًا هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ وَالْأُمَمُ مِنْ بَعْدِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحَجّ: 26].
فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ (سلم2) أَنْ يَبْنِيَا الْكَعْبَةَ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَدْ عَهِدَ اللهُ لِإِبْرَاهِيمَ أَنْ يُطَهِّرَ بَيْتَهُ مِنَ الشِّرْكِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ: دَعَا إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يُجَنِّبَهُ هُوَ وَذُرِّيَّتَهُ الشِّرْكَ؛ فَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وَفِي الطَّوَافِ تَذَكُّرٌ لِهَدْمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ وَدَاخِلَ الْكَعْبَةِ؛ إِعْلَانًا بِالتَّوْحِيدِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نصبًا, فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا})). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَالْحَقُّ هُوَ التَّوْحِيدُ, وَالْبَاطِلُ هُوَ الشِّرْكُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ, وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِلِ فِيهَا: الشِّرْكُ بِاللهِ وَالْمَعَاصِي الْمُخَالِفَةُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ بَيَّنَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ جَاءَ ثَابِتًا رَاسِخًا, وَأَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ زَهَقَ, أَيْ: ذَهَبَ وَاضْمَحَلَّ وَزَالَ)).
يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إِذَا قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يَغْتِسَلَ لِدُخُولِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اغْتَسَلَ عِنْدَ دُخُولِهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَقَالَ: ((بِسْمِ اللهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ الله، الَّلهُم اغْفِر لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَاب رَحْمَتِك)) . ((أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَبسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) .
ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لِيَبْتَدِئَ الطَّوَافِ، فَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيُقَبِّلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَّسَرْ تَقْبِيلُهُ قَبَّلَ يَدَهُ إِنِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَيَّسَرَ اسْتِلَامُهُ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْحَجَرَ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ إِشَارَةً وَلَا يُقَبِّلُ يَدَهُ.
وَيَقُولُ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ -إِنِ اسْتَطَاعَ-: ((بِاسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ)) .
ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ اسْتَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَّسَرْ فَلَا يُزَاحِمُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ -أَيْ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرِ- يَقُولُ: ((رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) .
وَكُلَّمَا مَرَّ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي طَوَافِهِ كَبَّرَ، وَيَقُولُ فِي بَقِيَّةِ طَوَافِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَقِرَاءَةِ قُرْآنٍ، فَإِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَإِذَا أَتَمَّ الطَّوَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بَعْدَ الْفَاتِحَةِ إِنْ تَيَسَّرَ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمَقَامِ.
- مِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ: قِرَاءَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ بِسُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ؛ كَمَا رَوَى جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((فَقَرَأَ فِيهِمَا بِالتَّوْحِيدِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) .
وَفِي رِوَايَةٍ : ((قَرَأَ فِي رَكْعَتِيِ الطَّوَافِ بِسُورَتَيِ الْإِخْلَاصِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)).
- وَفِي الطَّوَافِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ, وَفِي تَقْبِيلِ الْحَجَرِ, وَمَسْحِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ تَحْقِيقٌ لِلتَّوْحِيدِ: هَذِهِ الْعِبَادَاتُ تَشْهَدُ بِقُوَّةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-, فَالطَّائِفُ يَطُوفُ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَلِكَ الْمَبْنَى الْحَجَرِيِّ؛ وَإِنَّمَا عُبُودِيَّةً للهِ تَعَالَى.
وَلِذَلِكَ وَقَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَمَامَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَقَالَ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةَ: ((أَمَا إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ, وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ: ((إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ, فَخَشِيَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَظُنَّ الْجُهَّالُ أَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِ بَعْضِ الْأَحْجَارِ, كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّ اسْتِلَامَهُ اتِّبَاعٌ لِفِعْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, لَا لِأَنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِذَاتِهِ, كَمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ فِي أَوْثَانِهَا)) .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : ((وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الطَّوَافُ إِلَّا بِالْبَيْتِ, فَلَا يَجُوزُ الطَّوَافُ بِصَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ, وَلَا بِحُجْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَلَا بِالْقُبَّةِ الَّتِي فِي جَبَلِ عَرَفَاتٍ, وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الِاسْتِلَامُ، وَلَا التَّقْبِيلُ إِلَّا لِلرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ)).
وَقَوْلُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَا يُشْرَعُ الطَّوَافُ بِالْقُبَّةِ الَّتِي فِي جَبَلِ عَرَفَاتٍ)): كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-, وَلَمَّا جَاءَتْ دَوْلَةُ التَّوْحِيدِ أَزَالَتْ هَذِهِ الْآثَارَ كُلَّهَا.
- وَفِي الطَّوَافِ: إِعْلَانٌ بِالتَّوْحِيدِ عِنْدَ كُلِّ شَوْطٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ, وَذَلِكَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي بِدَايَةِ الطَّوَافِ، وَفِي بِدَايَةِ كُلِّ شَوْطٍ.
فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ, كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
فَاللهُ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, وَمِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِهِ, وَمِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ لَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُهُ وَرِضَاهُ.
- وَفِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ إِعْلَانٌ بِالتَّوْحِيدِ, فَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الطَّوَافِ رَكْعَتَيْنِ؛ تَلْبِيَةً لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
يُصَلِّي فِي الْأُولَى بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1-6].
يُعْلِنُ بِذَلِكَ تَوْحِيدَ الْعِبَادَةِ للهِ تَعَالَى, وَنَفْيَ الشِّرْكِ عَنْهُ, فَالْغَرَضُ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ: هُوَ تَيْئِيسُ الْكُفَّارِ مِنْ أَنْ يُوَافِقَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ الْمُؤَكَّدِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ, وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَا يُخَالِطُ شَيْئًا مِنْ دِينِ الشِّرْكِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : ((هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَهِيَ آمِرَةٌ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ)).
وَفِي الثَّانِيَةِ -أَيْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ- يَقْرَأُ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1-4]؛ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا للهِ, وَنَفْيًا عَمَّا يُضَادُّ ذَلِكَ مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ.
فَفِيهَا إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى, وَأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ سِوَاهُ, وَتَنْزِيهُهُ عَنْ سِمَاتِ الْمَخْلُوقِينَ, وَإِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْنٌ, وَإِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَثِيلٌ أَوْ شَبِيهٌ.
فَهِيَ بِذَلِكَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ.
((مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي السَّعْيِ))
- فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: تَحْقِيقٌ لِلتَّوْحِيدِ؛ فَفِيهِ اسْتِشْعَارٌ مِنْ أَوَّلِ لَحْظَةٍ أَعْلَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214], صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: ((يَا بَنِي فِهْرٍ! يَا بَنِي عَدِيٍّ.. )) لِبُطُونِ قُرَيْشٍ، حَتَّى اجْتَمَعُوا.
فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ؛ أَرْسَلَ رَسُولًا؛ لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَجَاءَتْ قُرَيْشٌ، فَقَالَ ﷺ: ((أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟!)).
قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا.
قَالَ: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ, أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ بَدَأَ النَّبِيُّ ﷺ السَّعْيَ بِآيَةٍ تَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ؛ وَهِيَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].
إِذَا فَرَغَ الْمُسْلِمُ مِنْ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ -خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ-؛ رَجَعَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ -إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ-، وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى الْمَسْعَى، فَإِذَا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}.
ثُمَّ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا حَتَّى يَرَى الْكَعْبَةَ -وَمَا زَالَ إِلَى الْيَوْمِ إِذَا رَقِيَ الصَّفَا وَإِذَا اعْتَلَاهَا؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يُمْكِنُ أَنْ يَرَى الْكَعْبَةَ- حَتَّى يَرَى الْكَعْبَةَ فَيَسْتَقْبِلَهَا، وَيَرْفَعَ يَدَيْهِ حَامِدًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، دَاعِيًا بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ.
- وَمن مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ: دُعَاءُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِالتَّوْحِيدِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((..فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ،... ».
وَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا .
((مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ وَأَسْرَارُهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ))
- مِنْ أَبْرَزِ مَا تَجَلَّى فِيهِ تَوْحِيدُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: دُعَاءُ النَّبِيِّ ﷺ فِي عَرَفَةَ بِالتَّوْحِيدِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ)) وَحَسَّنَهُ, وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ .
فَالدُّعَاءُ بِالتَّوْحِيدِ خَيْرُ الدُّعَاءِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ عَامَّةَ دُعَائِهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ هَذَا الدُّعَاء، وَقَدْ وَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَفَةَ وَجَعَلَ بَطْنَ النَّاقَةِ إِلَى الصَّخْرَاتِ، مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقِبْلَةِ، دَاعِيًا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-، مُبْتَهِلًا إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقِبْلَةِ، جَاعِلًا الصَّخْرَاتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، يُوَحِّدُهُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
فَهَذَا خَيْرُ مَا قَالَهُ وَخَيْرُ مَا قَالَ النَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ بِرُكْنَيْهِ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ أَدَّى تِلْكَ الْمَنَاسِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَا عَاشَ بَعْدَهَا إِلَّا أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ.
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا نَزَلَ بِنَمِرَةَ وَقَدْ أَمَرَ بِأَنْ تُضْرَبَ لَهُ خَيْمَةٌ فِيهَا ﷺ، وَقَدْ سَارَ مِنْ مِنًى فِي يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى نَزَلَ نَمِرَةَ، وَمَا زَالَ الْمَسْجِدُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا الْجُزْءُ الْمُقَدَّمُ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَمِرَةَ، وَأَمَّا الْجُزْءُ الْخَلْفِيُّ فَهُوَ حُدُودُ عَرَفَاتٍ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَدْخُلْ عَرَفَاتٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا وَقَصْرًا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، ثُمَّ سَارَ ﷺ حَتَّى جَعَلَ بَطْنَ النَّاقَةِ إِلَى الصَّخْرَاتِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ -إِلَى الْكَعْبَةِ- يَدْعُو رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَذَكَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ كَانَ حَاضِرًا وَمَنْ يَأْتِي بَعْدُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ بِأُمُورٍ عَظِيمَةٍ، فَفِيهَا قَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)) .
فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ الْأُمَّةَ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالْمَحَبَّةِ، وَعَلَى الْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّاسِ فِي أَبْشَارِهِمْ، وَفِي دِمَائِهِمْ، وَفِي دِيَارِهِمْ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي يَوْمٍ سَلَامٍ فِي شَهْرٍ سَلَامٍ فِي بَلَدٍ سَلَامٍ، فِي يَوْمٍ حَرَامٍ مِنْ شَهْرٍ حَرَامٍ فِي بَلَدٍ حَرَامٍ، عِنْدَ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ.
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ.
فِي ضُحَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ -لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ كَانُوا يَرْوُونَ الْمَنَاسِكَ عَلَى النَّاسِ، فَسُمِّيَ الْيَوْمُ بِذَلِكَ، أَوْ أَنَّ الْحَجِيجَ يَتَرَوُّونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ يَحْمِلُونَ الْمَاءَ عَلَى الرَّوَايَا -وَهِيَ الْإِبِلُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا الْمَاءُ، يَتَزَوَّدُونَ بِذَلِكَ إِلَى مِنًى-، مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مُتَمَتِّعًا، فَإِنَّهُ فِي مَسْكَنِهِ يَغْتَسِلُ وَيَتَطَيَّبُ وَيَلْبَسُ مَلَابِسَ الْإِحْرَامِ، وَيُصَلِّي لِلْوُضُوءِ لَا لِلْإِحْرَامِ.
فَإِذَا فَرَغَ؛ نَوَى الْإِحْرَامَ بِقَلْبِهِ، وَأَهَلَّ بِلِسَانِهِ: ((لَبَّيْكَ اللهم حَجًّا))، ثُمَّ سَعَى إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ، ثُمَّ يَبِيتُ بِمِنًى، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتَ بِهَا فِي لَيْلَةِ عَرَفَةَ.
ثُمَّ إِنَّهُ يُصَلِّي الصُّبْحَ وَيَسْعَى بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ إِلَى حُدُودِ عَرَفَاتٍ -إِنِ اسْتَطَاعَ- كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ، وَإِلَّا فَلَوْ دَخَلَ عَرَفَاتٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ يَقُومُ الْإِمَامُ بِالْخُطْبَةِ يُذَكِّرُ النَّاسَ بِالْمَنَاسِكِ وَمَا أَوْجَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ قَصْرًا مَعَ الْجَمْعِ، ثُمَّ يَسِيرُ النَّاسُ حَيْثَ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ ﷺ: ((وَقَفْتُ هَا هُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)).
يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَدْبِرَ الصَّخْرَاتِ، يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيُوَحِّدُهُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَحُجَّ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قَدَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ هَذِهِ الْحَجَّةِ الْعَظِيمَةِ الْأَذَانَ مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَبْرَؤُونَ وَيَتَبَرَّؤُونَ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ أَعْلَنَ اضْمِحْلَالَ الشِّرْكِ فِي هَذَا الْوُجُودِ، وَأَعْلَنَ ﷺ رَفْعَ رَايَةِ التَّوْحِيدِ.
*الْمَغْفِرَةُ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ؛ فَرَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ -كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- سَائِلًا مَلَائِكَتَهُ: مَاذَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟
فَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((صَحِيحِهِ)) ، مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).
فَهَذَا الْيَوْمُ لَمْ يُرَ الشَّيْطَانُ مَدْحُورًا وَلَا ذَلِيلًا مِثْلَمَا يُرْى فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِعَظِيمِ مَغْفِرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْخَلَائِقِ، ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو))، وَالدُّنُوُّ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى -لَيْسَتْ عِنْدَ مُسْلِمٍ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ: ((أَنَّهُ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ)) .
وَالنُّزُولُ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَالدُّنُوُّ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالنُّزُولُ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الثَّابِتَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِإِخْبَارِ رَسُولِهِ ﷺ، مَعَ قَطْعِ الطَّمَعِ فِي إِدْرَاكِ كَيْفِيَّةِ الدُّنُوِّ وَكَيْفِيَّةِ النُّزُولِ.
فَتُفَوِّضُ الْكَيْفِيَّةَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَمَّا مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ فَإِنَّنَا نُثْبِتُهُ للهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنِ الشَّرِيكِ وَالنِّدِّ وَالْكُفْءِ وَالْمَثِيلِ وَالنَّظِيرِ وَالْوَالِدَةِ وَالْوَلَدِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، ((فَيَدْنُو رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ؛ يُبَاهِي بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ)).
وَأَهْلُ الْمَوْقِفِ هَؤُلَاءِ الْمَفْرُوضُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ لِلْعَزِيزِ الْمَجِيدِ، لَا يَنْطَوُونَ عَلَى الشِّرْكِ، وَلَا يَنْطَوُونَ عَلَى الْبِدْعَةِ، وَلَا يَدْعُونَ إِلَى ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَلَبَّسُوا بِهِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُبَرَّؤُونَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ سَابًّا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، مُعْتَدِيًا عَلَى أَعْرَاضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، زَاعِمًا أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ حُرِّفَ بَعْدَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ.
لَيْسَ ذَلِكَ لِلْذِي يَدَّعِي أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُعَطَّلٌ عَنْ صِفَاتِهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ.
لَيْسَ ذَلِكَ لِلذي يَحِيدُ عَنْ شَرْعِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا ﷺ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ وَرَاءَهُ ظِهْرِيًّا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ أَعْلَنُوا التَّوْحِيدَ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الشِّرْكِ مُنْذُ انْبَعَثَتْ نَيِّاتُهُمْ لِلْحَجِّ الْعَظِيمِ، فَخَرَجُوا إِلَى رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَهُوَ مَظْهَرٌ عَمَلِيٌّ عَلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِي الْقَلْبِ، وَفِي الرُّوحِ، وَفِي الْجَنَانِ، وَفِي الْعَقْلِ، وَفِي الْفُؤَادِ.
ثُمَّ يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي التَّجَرُّدِ مِنَ الْمَخِيطِ وَالْعَوْدَةِ إِلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى رَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ الْعَامَّةَ الشَّامِلَةَ بِانْسِلَاخِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ، وَظَهَرَ أَثَرُ الْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهِ؛ فِي أَقْوَالِهِ، وَفِي أَعْمَالِهِ، وَفِي حَرَكَاتِهِ، وَفِي سَكَنَاتِهِ، ((مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).
وَهُوَ مَظْهَرٌ عَمَلِيٌّ يَتَجَلَّى فِيهِ تَطْبِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي جَمِيعِ مَظَاهِرِهِ.
النَّبِيُّ ﷺ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى الْغُرُوبِ، يَقِفُ هُنَالِكَ عِنْدَ الصَّخْرَاتِ مُتَّجِهًا إِلَى الْكَعْبَةِ بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ، دَاعِيًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمُوَحِّدًا، فَإِذَا مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ.
النَّبِيُّ ﷺ خَالَفَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْإِفَاضَةِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْتَظِرُ مَا يَصْنَعُ ﷺ، وَإِنَّهُ لَمِنْ دِينِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّمِيمِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَمُخَالَفَةُ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَأْتُونَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، عَلِمَتْ ذَلِكَ يَهُودٌ، حَتَّى قَالُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ)) .
مَا يُرِيدُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَّا أَنْ يُخَالِفَهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَالْحَنِيفِيَّةُ هِيَ الْمِلَّةُ الْخَالِصَةُ مِنَ الشِّرْكِ الْمَائِلَةُ عَنْهُ، فَالْحَنِيفُ: هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الشِّرْكِ، وَأَصْلُ الْمَادَةِ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمَيْلِ، فَالْحَنِيفُ: الَّذِي يَمِيلُ عَنِ الشِّرْكِ إِلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ.
وَالْحَنِيفِيَّةُ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ وَكُفْرٍ وَإِلْحَادٍ وَزَيْغٍ، وَالْأَخْذُ بِالسَّنَنِ الْأَقْوَمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ خَيْرُ الْخَلْقِ مُحْمَّدٌ ﷺ.
خَالَفَ النَّبِيُّ ﷺ فِي إِفَاضَتِهِ، وَسَارَ ﷺ وَهُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالسَّكِينَةِ: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ!».
وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ لَيْسَ السَّابِقُ الْيَوْمَ الَّذِي تَسْبِقُ فَرَسُهُ أَوْ يَسْبِقُ بَعِيرُهُ، وَإِنَّمَا السَّابِقُ الْيَوْمَ مَنْ غُفِرَ لَهُ)) ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَغْفِرُ، وَيُعْتِقُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا هُوَ -جَلَّ وَعَلَا-.
أَفَاضَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ عَرَفَاتٍ وَصَلَّى بِالْمُزْدَلِفَةِ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْعَاشِرِ -فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ- صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَالْأَصْلُ أَلَّا جَمْعَ، وَإِنَّمَا يَأْتِي الْجَمْعُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا إِلَّا مَعَ الْعِشَاءِ أَوْ بَعْدَهَا فَإِنَّهُ يَجْمَعُ، وَالْأَذَانُ وَاحِدٌ وَإِقَامَتَانِ.
ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ ﷺ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى مِنًى، فَرَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَكَّةَ- بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ.
((مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي أَعْمَالِ يَوْمِ النَّحْرِ))
إِنَّ أَعْمَالَ يَوْمِ النَّحْرِ -وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ- أَرْبَعَةُ أَعْمَالٍ مَعْلُومَةٍ مَشْهُورَةٍ؛ وَهِيَ:
*الرَّمْيُ.
*ثُمَّ النَّحْرُ.
*ثُمَّ الْحَلْقُ.
*ثُمَّ الطَّوَافُ.
- تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ فِي رَمْيِ الْجَمَرَاتِ: كَانَ ﷺ -كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- يَرْمِي الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ .
- تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ فِي نَحْرِ الْهَدْيِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-: قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحَجّ: 34].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحَجّ: 36-37].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((يَأْمُرُهُ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ, وَيَذْبَحُونَ لِغَيْرِ اسْمِهِ؛ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ للهِ, وَنُسُكَهُ عَلَى اسْمِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهَ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]؛ أَيْ: أَخْلِصْ لَهُ صَلَاتَكَ وَذَبِيحَتَكَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَيَذْبَحُونَ لَهَا، فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِمُخَالَفَتِهِمْ, وَالِانْحِرَافِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَالْإِقْبَالِ بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْإِخْلَاصِ للهِ تَعَالَى)).
فَالنُّسُكُ -كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {صَلَاتِي وَنُسُكِي}- هُوَ: «الذَّبْحُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» .
*تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ فِي الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ:
الْمُسْلِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ وَالتَّقَرُّبِ لَا يَجُوزُ الْقِيَامُ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالْحَلْقُ هُوَ: إِزَالَةُ شَعْرِ الرَّأْسِ كَامِلًا.
وَالتَّقْصِيرُ هُوَ: التَّخْفِيفُ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ كُلِّهِ.
وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَنَاسِكِ؛ لَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ)).
فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, قَالَ: ((لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, ثُمَّ يُحِلُّوا، وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا)).
وَهُوَ إِشْعَارٌ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ, وَاقْتِدَاءٌ بِفِعْلِ الرَّسُولِ ﷺ حَيْثُ حَلَقَ رَأْسَهُ, وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ؛ إِلْقَاءً لِلتَّفَثِ، وَإِزَالَةً لِلشَّعَثِ, وَهُوَ وَضْعٌ لِلنَّوَاصِي بَيْنَ يَدَيِ رَبِّهَا؛ خُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَتَذَلُّلًا لِعِزَّتِهِ, وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ -أَيِ: الْحَلْقُ- أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ أَقْوَامٍ يَحْلِقُونَ رُؤُوسَهُمْ عَلَى أَيْدِي الْأَشْيَاخِ, وَعِنْدَ الْقُبُورِ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا, وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَعِبَادَةً, هَلْ هَذَا سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ, وَهَلْ حَلْقُ الرَّأْسِ مُطْلَقًا سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ؟
فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((حَلْقُ الرَّأْسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: حَلْقُهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ﷺ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].
وقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجِّهِ وَفِي عُمْرَتِهِ, وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ مَنْ حَلَقَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ; وَلِهَذَا قَالَ ﷺ: ((اللهم اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَالْمُقَصِّرِينَ؟
قَالَ: ((اللهم اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَالْمُقَصِّرِينَ؟
قَالَ: ((اللهم اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَالْمُقَصِّرِينَ؟
قَالَ: ((وَالْمُقَصِّرِينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ أَمَرَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْيَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُقَصِّرُوا رُؤُوسَهُمْ لِلْعُمْرَةِ إِذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ; ثُمَّ يَحْلِقُوا إِذَا قَضَوُا الْحَجَّ، فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْصِيرِ أَوَّلًا وَبَيْنَ الْحَلْقِ ثَانِيًا.
النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ حَلْقِ الرَّأْسِ: حَلْقُ الرَّأْسِ لِلْحَاجَةِ؛ مِثْلُ أَنْ يَحْلِقَهُ لِلتَّدَاوِي, فَهَذَا جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ; فَإِنَّ اللهَ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ أَنْ يَحْلِقَهُ إِذَا كَانَ بِهِ أَذًى، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ -وَالْقَمْلُ يَنْهَالُ مِنْ رَأْسِهِ- فَقَالَ: ((أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟)).
قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: ((احْلِقْ رَأْسَكَ, وَانْسُكْ بِشَاةٍ; أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ; أَوْ أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهُوَ مُتَلَقًى بِالْقَبُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَلْقِ: حَلْقُهُ -أَيِ: الرَّأْسِ- عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ وَالتَّدَيُّنِ وَالزُّهْدِ مِنْ غَيْرِ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ؛ مِثْلُ مَا يَأْمُرُ بَعْضُ النَّاسِ التَّائِبَ إِذَا تَابَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ, وَمِثْلُ أَنْ يُجْعَلَ حَلْق الرَّأْسِ شِعَار أَهْلِ النُّسُكِ وَالدِّينِ, أَوْ مِنْ تَمَامِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ, أَوْ يُجْعَلَ مَنْ يَحْلِقُ رَأْسَهُ أَفْضَل مِمَّنْ لَمْ يَحْلِقْهُ, أَوْ أَدْيَنَ أَوْ أَزْهَدَ.
أَوْ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ شَعْرِ التَّائِبِ؛ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْمَشْيَخَةِ إِذَا تَوَّبَ أَحَدًا أَنْ يَقُصَّ بَعْضَ شَعَرِهِ, وَيُعَيِّنُ الشَّيْخُ صَاحِبَ مِقَصٍّ وَسَجَّادَةٍ, فَيَجْعَلُ صَلَاتَهُ عَلَى السَّجَّادَةِ, وَقَصَّهُ رُؤُوسُ النَّاسِ مِنْ تَمَامِ الْمَشْيَخَةِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً يُتَوِّبُ التَّائِبِينَ!!
فَهَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَأْمُرِ اللهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ ﷺ; وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ, وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ, وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ؛ لَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَا تَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَنْ أَسْلَمَ, وَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِحَلْقِ رُؤُوسِهِمْ إِذَا أَسْلَمُوا, وَلَا قَصَّ النَّبِيُّ ﷺ رَأْسَ أَحَدٍ.
وَلَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى سَجَّادَةٍ, بَلْ كَانَ يُصَلِّي إِمَامًا بِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ, يُصَلِّي عَلَى مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ, وَيَقْعَدُ عَلَى مَا يَقْعُدُونَ عَلَيْهِ, لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا عَنْهُمْ بِشَيْءٍ يَقْعُدُ عَلَيْهِ؛ لَا سَجَّادَةٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَمَنِ اعْتَقَدَ الْبِدَعَ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً قُرْبَةً وَطَاعَةً, وَطَرِيقًا إِلَى اللهِ تَعَالَى, وَجَعَلَهَا مِنْ تَمَامِ الدِّينِ, وَمِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ التَّائِبُ وَالزَّاهِدُ وَالْعَابِدُ؛ فَهُوَ ضَالٌّ خَارِجٌ عَنْ سَبِيلِ الرَّحْمَنِ, مُتَّبِعٌ لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)).
ثُمَّ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ النَّوْعَ الرَّابِعَ مِنْ حَلْقِ الرُّؤُوسِ:
((النَّوْعُ الرَّابِعُ : هُوَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي غَيْرِ النُّسُكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ, وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَالتَّدَيُّنِ، وَذَكَرَ أَنَّ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ)).
ثُمَّ ثَنَّى -رَحِمَهُ اللهُ- ذَاكِرًا مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ كُلِّ قَوْلٍ.
((تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ أَيَّامَ مِنًى))
وَمِنْ ذَلِكَ التَّكْبِيرُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.
لَمَّا طَافَ النَّبِيُّ ﷺ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﷺ؛ رَجَعَ إِلَى مِنًى.
فِي يَوْمِ الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ تُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ، تُرْمَى كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُبْدَأُ بِالَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ، يَتَّجِهُ إِلَى مَكَّةَ يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيُوَحِّدُهُ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى -جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ-، وَلَا يَدْعُو عِنْدَهَا، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ عِنْدَ الْوُسْطَى مِنَ الْأَخْذِ ذَاتَ الشِّمَالِ مَعَ الدُّعَاءِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ، يَفْعَلُ عِنْدَ الْوُسْطَى كَمَا فَعَلَ عِنْدَ الصُّغْرَى.
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الَّتِي تَلِي مَكَّةَ انْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ وَالتَّكْبِيرُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمٌ، كَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي خُطْبَتِهِ بِمِنًى، يُكَبِّرُ يَسْمَعُهُ النَّاسُ، يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى تَرْتَجُّ مِنًى تَكْبِيرًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَفْرَحُونَ بِنِعْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )) .
أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، أَيَّامُ تَمَتُّعٍ بِنِعْمَةِ اللهِ الَّذِي أَتَمَّ النِّعْمَةَ، وَأَتَى بِالْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، فَذَلَّلَ لَهُ الْمَسَالِكَ، وَحَمَلَهُ بِمَا شَاءَ وَعَلَى مَا شَاءَ حَتَّى أَقَامَهُ بِالْأَرْضِ الطَّيِّبَةِ، أَقَامَهُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَبِالْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَيَسَّرَ لَهُ الْمَشَاعِرَ، وَغَفَرَ لَهُ، وَتَقَبَّلَ مِنْهُ، وَهُوَ الْجَوَادُ الْبَرُّ الْمُتَفَضِّلُ الرَّحِيمُ.
((الْحَجُّ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ إِظْهَارًا لِتَوْحِيدِ اللهِ))
الْحَجُّ تَوْحِيدٌ للهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَاداتِ إِظْهَارًا لِتَوْحِيدِ اللهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ:
عِنْدَ النَّحْرِ: ((بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ)).
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى الصَّفَا: بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ وَإِعْلَانٌ لِلتَّوْحِيدِ.
وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْسَكٍ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَفِي كُلِّ حَرَكَةٍ مِنْ حَرَكَاتِهِ، وَفِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ وَإِعْلَانٌ بِالتَّوْحِيدِ، وَدُخُولٌ فِي الْمَنْظُومَةِ الْعَابِدَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَابِدُونَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُسَبِّحُونَ.
الَّذِي يَكْفُرُ الثَّقَلَانِ -الْإِنْسُ وَالْجِنُّ-؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَاهُمْ الِاخْتِيَارَ، فَمِنْهُمْ كَافِرٌ وَمِنْهُمْ مُؤْمِنٌ، وَمِنْهُمْ ضَالٌّ مُنْحَرِفٌ وَمِنْهُمْ حَنِيفٌ مُسْتَقِيمٌ، فَيَدْخُلُ فِي الْمَنْظُومَةِ الْعَابِدَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُوَحِّدَةِ.
الْأَجْرَامُ كُلُّهَا وَالْخَلْقُ مِنْ صَغِيرِهِ إِلَى كَبِيرِهِ طَائِفٌ وَمَطُوفٌ بِهِ، مِنْ أَصْغَرِ مَا هُنَالِكَ مِنَ الذَّرَّةِ كُهَيْرَبَاتُهَا السَّالِبَة سَابِحَةٌ فِي أَفْلَاكِهَا، دَائِرَة حَوْلَ مَرْكَزٍ هُوَ النَّوَاةُ، طَائِفٌ وَمَطُوفٌ بِهِ، فَأَكْبَرُ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ طَائِفٌ وَمَطُوفٌ بِهِ.
يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ بَيْتَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَرَامَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، طَائِفٌ وَمَطُوفٌ بِهِ، إِعْلَانٌ بِالْخُضُوعِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِالِانْخِلَاعِ مِنْ جَمِيعِ الْمَوْرُوثَاتِ، وَبِالدُّخُولِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا رَمَى الْحَصَيَاتِ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، نَحَرَ النَّبِيُّ ﷺ هَدْيَهُ وَكَانَ قَارِنًا، وَلَوْلَا أَنَّهُ سَاقَ الْهَدْيَ لَتَمَتَّعَ، وَجَاءَ عَلَيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنَ الْيَمَنِ يَسُوقُ الْبُدْنَ هَدْيًا -هَدْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ- فَوَجَدَ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدِ اكْتَحَلَتْ وَاتَّخَذَتْ ثَوْبًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي أَبِي ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
فَذَهَبَ عَلَيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((بِمَ أَهْلَلْتَ؟)).
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
قَالَ: ((فَابْقَ عَلَى إِحْرَامِكَ، لَا تَتَحَلَّلْ)) .
أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ بِالتَّحَلُّلِ، وَدَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ أَبَدَ الْأَبِيدِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ، فَكَانَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ سِوَى النَّبِيِّ ﷺ طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَارِنًا وَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيَهُ بِالتَّحَلُّلِ وَالتَّمَتُّعِ.
فِي يَوْمِ الْعِيدِ أَرْبَعَةُ أَعْمَالٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْكَبِيرَةِ فِي الْحَجِّ؛ وَهِي:
رَمْيُ الْجَمْرَةِ -جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ؛ وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَكَّةَ-.
وَالنَّحْرُ، نَحَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، ثُمَّ وَكَّلَ عَلَيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَنَحَرَ الْبَاقِي، فَأَتَمَّ مِئَةً، وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلٍّ بَضْعَةً -وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ-، فَجُعِلَ ذَلِكَ جَمِيعُهُ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَ، فَأَصَابَ مِنْ مَرَقِهِ وَأَكْلَ مِنْ لَحْمِهِ ﷺ؛ إِعْلَانًا بِشُكْرِهِ لِرَبِّهِ: ((بِسْمِ اللهِ)).
وَلَوْلَا إِذْنُهُ مَا اجْتَرَأَ أَحَدٌ عَلَى إِرَاقَةِ دِمَائِهَا، وَإِنَّمَا نُرِيقُ دِمَاءَهَا وَنَتَمَتَّعُ بِلُحُومِهَا، نَسْتَفِيدُ مِنْ عِظَامِهَا وَجُلُودِهَا بِسْمِ اللهِ وَحْدَهُ، ((بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ)).
*وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ: وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ، وَجَلَسَ لِلنَّاسِ يُعَلِّمُهُمْ وَقَدْ بُعِثَ مُعَلِّمًا وَهَادِيًا وَمُنْذِرًا وَبَشِيرًا ﷺ، مَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: ((افْعَلْ وَلَا حَرَجَ، افْعَلْ وَلَا حَرَجَ)) .
لَمَّا طَافَ النَّبِيُّ ﷺ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ؛ رَجَعَ إِلَى مِنًى، وَيَسْعَى الْمُتَمَتِّعُ أَيْضًا وَكَذَلِكَ الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ إِذَا كَانَ أَخَّرَ السَّعْيَ فَلَمْ يُلْحِقْهُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، فَيَسْعَى حِينَئِذٍ أَيْضًا.
طَافَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، وَظَلَّ هُنَالِكَ إِلَى الثَّالِثَ عَشَرَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَرْمِي الْجَمَرَاتِ، وَسُنَّتُهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ﷺ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَكِنْ لَوْ تَدَافَعَ الْحَجِيجُ كُلُّهُمْ مُتَوَاطِئِينَ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ؛ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا فِيهِ.
وَلِذَلِكَ فَنَبِيُّكُمْ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ لَمَّا وَقَفَ حَيْثُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَالَ: ((وَقَفْتُ هُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ))، وَلَمَّا وَقَفَ حَيْثُ وَقَفَ ﷺ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ قَالَ: ((وَقَفْتُ هَاهُنَا وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)) .
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُعَسِّرْ عَلَيْنَا شَيْئًا، وَلَكِنْ إِنْ أَخَذْنَا بِسُنَّتِهِ وَلَمْ نَتَجَاوَزْ، وَلَمْ نَقَعْ دُونَهَا، وَجَدْنَا الْيُسْرَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا الْعُسْرُ حَيْثُ ظَنَّ النَّاسُ الْيُسْرَ مُخَالِفِينَ شَرْعَ اللهِ وَهَدْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُرْتَبِطَةً أَوَّلَهَا بِآخِرِهَا، مُرْتَبِطَةً بِمَسِيرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ آدَمَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ إِلَى الْخَلِيلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ-، لِذَلِكَ تَجِدُ التَّذْكِيرَ بِغَابِرِ الْأُمُمِ حَيْثَ يَمْضِي الْبُعْدُ الزَّمَانِيُّ عَلَى اسْتِقَامَتِهِ، مَارًّا بِمَسِيرَةِ التَّوْحِيدِ يُعْلِنُهَا أَنْبِيَاءُ اللهِ وَرُسُلُهُ، تَجِدُ هَذَا لَائِحًا وَاضِحًا.
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ - إِمَامِ الْحُنَفَاءِ وَخَلِيلِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ-.
النَّبِيُّ ﷺ إِذَا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ مُتَوَجِّهًا عَلَى الصَّفَا؛ سَعَى إِلَى الْمَرْوَةِ، وَإِذَا كَانَ بِالْوَادِي سَعَى سَعْيًا حَثِيثًا، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَرْوَةِ تَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ دَاعِيًا رَبَّهُ ذَاكِرًا مُسَبِّحًا مُنِيبًا مُوَحِّدًا.
وَهَاجَرُ صَعِدَتْ وَنَزَلَتْ وَسَعَتْ، وَكَمَا سَعَتْ سَعَى رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَإِنَّهَا لَتَنْزِلُ مِنَ الْجَبَلِ مُتَرَفِّقَةً، إِذْ لَا يَجْمُلُ أَنْ يَنْزِلَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْجَبَلِ مُسْرِعًا، فَلَرُبَّمَا عَسُرَ فَأُلْقِيَ عَلَى وَجْهِهِ مُتَدَحْرِجًا، أَمَّا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ فَسَعْيٌ حَثِيثٌ، وَبِذَا جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهَذَا السَّعْيُ بِالسُّرْعَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلرِّجَالِ فَقَطْ.
النَّبِيُّ ﷺ يَشْرَبُ مِنْ زَمْزَمَ، وَيَضَعُ عَلَى رَأْسِهِ ﷺ .
النَّبِيُّ ﷺ يُذَكِّرُنَا حَجُّهُ بِمَا كَانَ قَبْلُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَبِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَبِالْمَشَاعِرِ وَالْمَنَاسِكِ، كُلِّهَا وَيُعْلِنُ التَّوْحِيدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُقَبِّلُ حَجَرًا، وَيَرْجُمُ حَجَرًا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ يُطِيعُ رَبَّهُ وَيَدْعُو إِلَى دِينِهِ مُتَمَسِّكًا بِهُ، صَابِرًا عَلَى الْأَذَى فِيهِ.
نَبِيُّكُمْ ﷺ كَانَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِيِّ لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا أَبَدًا)) . وَقَدْ كَانَ، قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
أَخَذُوا مَنَاسِكَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
((تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ فِي الْحَجِّ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))
- مِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِي الْحَجِّ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمُخَالِفِينَ لِلتَّوْحِيدِ وَأَعْمَالِهِمْ وَمُخَالَفَتُهَا, فَقَدْ تَبَرَّأَ ﷺ مِنْ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِدَّةِ مَوَاقِفَ فِي الْحَجِّ؛ مِنْهَا:
* إِعْلَانُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذَلِكَ: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يُعْلِمَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ عُهُودِهِمْ, فَبَعَثَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَيْثُ قَرَأَ صَدْرَ ((سُورَةِ بَرَاءَةَ)) عَلَيْهِمْ يَوْمَ النَّحْرِ, ثُمَّ خَاطَبَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: {فَإِن تُبْتُمْ} وَرَجَعَتُمْ عَنِ الشِّرْكِ، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَيْهِ، {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عَنِ الْإِيمَانِ، {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: لَا تَفُوتُونَهُ بِأَنْفُسِكُمْ عَنِ الْعَذَابِ أَوْ أَوْعَدَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
* وَمِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُخَالَفَةِ لَهُمْ: مَنْعُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ مَا دَامُوا عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ, فَإِنَّهُ ﷺ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]؛ تَمَثَّلَ ذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ.
أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الطَّاهِرِينَ دِينًا وَذَاتًا بِنَفْيِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ نَجَسٌ دِينًا عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَلَّا يَقْرَبُوهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَكَانَ نُزُولُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ؛ ((فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَبَا بَكْرٍ بِأَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ سَنَةَ تِسْعٍ: بِأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
* وَمِنْهَا التَّلْبِيَةُ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُضَمِّنُونَهَا الشِّرْكَ بِاللهِ, يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ: «إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، مَلَكْتَهُ وَمَا مَلَكَ» .
فَوَحَّدَ النَّبِيُّ فِي التَّلْبِيَةِ رَبَّهُ، وَنَبَذَ الشِّرْكَ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ, وَأَفْرَدَ اللهَ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ.
* وَمِنَ الْبَرَاءَةِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْمُشْرِكِينَ: وُقُوفُهُ ﷺ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ, وَمُخَالَفَتُهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ؛ إِذْ كَانُوا يَقِفُونَ فِي مُزْدَلِفَةَ, وَيَقُولُونَ لَا نُفِيضُ إِلَّا مِنَ الْحَرَمِ , وَإِفَاضَتُهُ ﷺ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ, وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِهَا؛ مُخَالِفًا هَدْيَ الْمُشْرِكِينَ؛ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْمَغِيبِ, وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ الشُّرُوقِ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِعَرَفَةَ, فَحَمِدَ اللهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((أَمَّا بَعْدَ: فَإِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ هَا هُنَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, حِينَ تَكُونُ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ مِثْلَ عَمَائِمِ الرِّجَالِ عَلَى رُؤُوسِهَا، فَهَدْيُنَا مُخَالِفٌ لِهَدْيِهِمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ مِثْلَ عَمَائِمِ الرِّجَالِ عَلَى رُؤُوسِهَا, فَهَدْيُنَا مُخَالِفٌ لِهَدْيِهِمْ)) .
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ, قَالَ: ((حَجَجْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نُفِيضَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةَ، قَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ, وَكَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ, فَخَالَفَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَأَفَاضَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَه, وَاللَّفْظُ لَهُ .
* وَمِنْهَا إِعْمَارُهُ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدَ الْحَجِّ؛ مُخَالَفَةً لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ حِلَّ الْعُمْرَةِ إِلَّا إِذَا دَخَلَ صَفَر .
* وَمِنْهَا قَصْدُهُ ﷺ مُرَاغَمَةَ الْمُشْرِكِينَ بِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي أَظْهَرُوا بِهَا الْكُفْرَ وَالْعَدَاوَةَ للهِ وَرَسُولِهِ, وَذَلِكَ حِينَ قَالَ ﷺ بِمِنًى: ((نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ -يَعْنِي: الْمحصب- )) .
«وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ- أَلَّا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلموا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ ﷺ.
فَلَمْ يُبْرِمِ اللهُ لَهُمْ أَمْرًا, بَلْ كَبَتَهُمْ وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ, فَنَصَرَ نَبِيَّهُ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ, وَأَتَمَّ دِينَهُ الْقَوِيمَ, وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ ﷺ أَنْ يُقِيمَ شِعَارَ التَّوْحِيدِ فِي مَوَاضِعِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ» .
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَقَرَّتْ شَرِيعَتُهُ -لَا سِيَّمَا فِي الْمَنَاسِكِ- عَلَى قَصْدِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ, وَقَدْ حَرِصَ ﷺ فِي حَجَّتِهِ عَلَى تَقَصُّدِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ, وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ وَأَحْكَامِهِ, وَوَصَلَ الْأَمْرُ غَايَتَهُ حِينَ قَالَ ﷺ لِلنَّاسِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: ((هَدْيُنَا مُخَالِفٌ لِهَدْيِهُمْ)) .
* وَحِينَ تَبَرَّأَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَةَ؛ فَقَالَ: ((أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ, وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ, وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ, كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ, وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ)) .
* كَمَا تَجَلَّى ذَلِكَ بِإِظْهَارِهِ ﷺ وَحْدَةَ الدِّينِ الْمِلِّيِّ؛ حِينَ أَرْسَلَ ابْنَ مِرْبَعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى النَّاسِ وَهُمْ وُقُوفٌ بِعَرَفَةَ يَقُولُ لَهُمْ: ((كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)) .
* وَتَجَلَّى -أَيْضًا- بِبِيَانِهِ لِلنَّاسِ؛ بِأَنَّ لَهُمْ تَارِيخًا مَجِيدًا ضَارِبًا بِجُذُورِهِ فِي أَعْمَاقِ التَّارِيخِ, وَأَنَّ لَهُمْ سَلَفًا عَظِيمًا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ فِي أَدَاءِ النُّسُكِ؛ إِذْ ذَكَرَ ﷺ لَهُمْ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَقَامٍ حَجَّ الْأَنْبِيَاءِ (سلم3) لِلْبَيْتِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ ﷺ -حِينَ مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ-: ((أَيُّ وَادٍ هَذَا؟)).
قَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ.
قَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ)).
ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى ، فَقَالَ: ((أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟)).
قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعِدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ ، وَهُوَ يُلَبِّي)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا )). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
((الْحَجُّ تَوْحِيدٌ وَذِكْرٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
((ذِكْرُ اللهِ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَاتِ))
إِنَّ مِنَ الْأُصُولِ الْأَصِيلَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: الذِّكْرُ, وَهَذَا الْأَصْلُ غَفَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَرِّرَ هَذَا الْأَصْلَ, وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِصَابَةِ مِنْهُ بِسَهْمٍ كَبِيرٍ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ وَخَطَرَهُ، وَلِأَنَّ نَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتَهُ كَبِيرَةٌ وَعَظِيمَةٌ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ، وَفِي آخِرَتِهِ.
إِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: هِيَ الْقِيَامُ بِعِبَادَةِ اللهِ؛ كَمَا قال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56], أَيْ: لِتَكُونَ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا عِبَادَةً لِي؛ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمُتَحَتِّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَلَّا تُغَادِرَ الْعِبَادَةُ شَيْئًا مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا وَشَمِلَتْهُ.
وَالذِّكْرُ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَعْنَاهَا وَمَبْنَاهَا, وَلَيْسَ لِلْعِبَادَةِ مَعْنًى وَلَا قِيمَةٌ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعِبَادَةُ ذِكْرًا للهِ.
وَشُمُولِيَّةُ الذِّكْرِ لِلْعِبَادَةِ كَشُمُولِيَّةِ الْعِبَادَةِ لِلْحَيَاةِ, وَتَعْلُو الْعِبَادَةُ وَيَزْدَادُ شَأْنُهَا بِقَدْرِ تَمَكُّنِ ذِكْرِ اللهِ مِنْ قَلْبِ الْعَابِدِ الْقَائِمِ بِهَا.
فَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ لِلْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ مَا كَانَتْ إِلَّا لِلذِّكْرِ؛ إِذْ إنَّ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا شُرِعَتْ؛ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى, وَالْمَقْصُودُ بِهَا: تَحْصِيلُ ذِكْرِ اللهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
*وَالذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَالْقَلْبِ، وَالْجَوَارِحِ:
*وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللِّسَانِ: الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّمْجِيدِ.
*وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ: التَّفَكُّرُ فِي أَدِلَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ, وَفِي أَدِلَّةِ التَّكَالِيفِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى أَحْكَامِهَا، وَفِي أَسْرَارِ مَخْلُوقَاتِ اللهِ.
*وَالذِّكْرُ بِالْجَوَارِحِ: هُوَ أَنْ تَصِيرَ مُسْتَغْرِقَةً فِي الطَّاعَاتِ, وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى اللهُ الصَّلَاةَ ذِكْرًا فَقَالَ: {فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].
فَذِكْرُ اللهِ زَيَّنَ اللَّهُ بِهِ أَلْسِنَةَ الذَّاكِرِينَ كَمَا زَيَّنَ بِالنُّورِ أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ، فَاللِّسَانُ الْغَافِلُ كَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ, وَالْأُذُنِ الصَّمَّاءِ, وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ.
وَهُوَ -أَيِ: الذِّكْرُ- بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغْلِقْهُ الْعَبْدُ بِغَفْلَتِهِ.
وَبِالذِّكْرِ: يَصْرَعُ الْعَبْدُ الشَّيْطَانَ كَمَا يَصْرَعُ الشَّيْطَانُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)). وَالحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) .
وَسَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
فَقَالَ: ((أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)) .
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)) .
وَفِي ((صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظيمِ)).
وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟
إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلَى اللهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)).
إِنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَيْسَرِ الْأُمُورِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَذْلِ مَالٍ, وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَبِيرِ مَجْهُودٍ.
((ذِكْرُ اللهِ رُوحُ الْحَجِّ))
إِنَّ مِنَ الدُّرُوسِ الَّتِي نَتَعَلَّمُهَا مِنَ الْحَجِّ: مَا يَتَعَلَّقُ بِدُعَاءِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَذِكْرِهِ.
وَمَعْلُومٌ مَا لِلذِّكْرِ مِنَ الْفَضْلِ, وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقَرِّبُ الذَّاكِرِينَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَذْكُرُهُ ذَاكِرٌ إِلَّا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى قَبْلَ ذِكْرِهِ إِيَّاهُ؛ فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي مَلَأٍ ذَكَرَهُ اللهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ.
فَكُلُّ ذَاكِرٍ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ مَحْفُوفٌ ذِكْرُهُ بِذِكْرَيْنِ؛ بِذِكْرٍ قَبْلَهُ وَبِذِكْرٍ بَعْدَهُ, فَيَذْكُرُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُوَفِّقًا إِيَّاهُ لِذِكْرِهِ, وَمُقَدِّرًا إِيَّاهُ عَلَيْهِ, فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي مَلَأٍ ذَكَرَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ فَضْلَ الذِّكْرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ, ((وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ))، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- .
وَأَمَّا الدُّعَاءُ: ((فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ)) ، كَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَفِي الْحَجِّ -فِي أَمَاكِنَ سِتَّةٍ- كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَعْلِنُ بِالدُّعَاءِ وَيُطِيلُهُ جِدًّا, فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ جَمْعَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ مَعَ الْقَصْرِ؛ وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَمْتَدَّ الْمُدَّةُ الزَّمَنِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ أَيْ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَجْمُوعَةً مَقْصُورَةً مَعَ الظُّهْرِ لِتَمْتَدَّ الْمُدَّةُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِلذِّكْرِ وَلِلدُّعَاءِ, وَالِابْتِهَالِ وَالرَّجَاءِ, وَالتَّوَجُّهِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِإِنَابَةٍ وَإِخْلَاصٍ, سَائِلِينَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَوَائِجَهُمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَإِنَّهُ لَيَدْنُو -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَفِي وَقْتِ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ يَرْحَمُ اللهُ مَنْ يَشَاءُ, وَيُعْطِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يُرِيدُ, وَيَتَفَضَّلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَنْ يَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ كَمَا فِي النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ, فَإِنَّهُ تَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((أَلَا هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ أَلَا هَلْ مِنْ سَائِلٍ حَاجَةٍ فَأُعْطِيَهُ إِيَّاهَا؟ أَلَا هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟))، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ مَجْمُوعَةً مَقْصُورَةً مَعَ الظُّهْرِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الصَّخْرَاتِ, وَيَتَوَجَّهُ إِلَى قِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ رَافِعًا يَدَيْهِ دَاعِيًا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ فَهَذَا مَوْطِنٌ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ, بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ جِدًّا -يَعْنِي: الصُّبْحَ-, يَدْعُو اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَا شَاءَ.
ثُمَّ يَدْفَعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مِنًى؛ مِنْ أَجْلِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى.
وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ, وَكَانَ يَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الصُّغْرَى, فَكَانَ يَرْمِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ, ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دَاعِيًا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دُعَاءً طَوِيلًا؛ قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((كَمِثْلِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ)) .
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مُكَبِّرًا, ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دَاعِيًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دُعَاءً طَوِيلًا, ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى وَلَا يَدْعُو بَعْدَهَا.
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ مَوَاطِنَ.
ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ الصَّفَا وَعِنْدَ الْمَرْوَةِ بِالدُّعَاءِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُ ﷺ؛ فَهَذِهِ سِتَّةُ مَوَاطِنَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو فِيهَا رَبَّهُ دُعَاءً طَوِيلًا طَيِّبًا.
وَأَمَّا الذِّكْرُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا ((أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ -وَهِيَ يَوْمُ الْقَرِّ, وَالْيَوْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ, وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ- أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- )) .
وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ, فَإِذَا سَمِعَهُمْ مَنْ بِخَارِجِ الْمَسْجِدِ؛ كَبَّرَ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا هَدَاهُمْ, وَعَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ, وَاللهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, وَاللهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ, اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا.
عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نَتَوَجَّهَ إِلَى رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِالدُّعَاءِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ, وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَمَّى الدُّعَاءَ فِي كِتَابِهِ عِبَادَةً فَقَالَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}؛ أَيْ: عَنْ دُعَائِي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]؛ أَذِلَّةً صَاغِرِينَ.
((فَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) ، كَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
*وَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ؛ فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ حَجِّكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ، وَذَبَحْتُمْ ذَبَائِحَكُمْ -بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ بِمِنًى- فَاذْكُرُوا اللهَ بِالتَّحْمِيدِ، وَالتَّمْجِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِثْلَ ذِكْرِكُمْ مَفَاخِرَ آبَائِكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ أَكْثَرَ ذِكْرًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلذِّكْرِ وَالْحَمْدِ مُطْلَقًا.
((مُخَالَفَاتٌ مِنْ بَعْضِ الْحَجِيجِ فِي الْمَنَاسِكِ))
إِنَّ الْحَجِيجَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ بِاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَأَوْطَانِهِم وَطَرَائِقِ حَيَاتِهِمْ، فَمِنَ الْمُحْزِنِ أَنْ تَلْحَظَ -مِنْ بَعْضِهِمْ- صِفَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ؛ هُمَا: والْجَهْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ.
إِنَّ غِيَابَ التَّرْبِيَةِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْحَقِّ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمَمِ، مَعَ الْوُلُوغِ فِي الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ، وَتَقْدِيمِ الرَّأْيِ وَالْهَوَى عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ أَدَّى إِلَى ظَوَاهِرَ لَا تُحْمَدُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشِّرْكِيَّاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَزْمِنَةِ وَخَيْرِ الْبِقَاعِ، مَعَ الْأَثَرَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْحِدَّةِ الْحَدِيدَةِ النَّافِرَةِ، وَجَفَاءِ الْمَنْطِقِ، وَاللَّعْنِ وَالسَّبِّ، وَالتَّطَاوُلِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ مِنْ مَقْصِدِ الْحَاجِّ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْ أَوْزَارِهِ، وَيُلْقِي عَنْهُ مَا يَؤُودُهُ مِنْ أَحْمَالِ آثَامِهِ، وَكَأَنَّمَا تَجَشَّمَ الصِّعَابَ، وَأَنْفَقَ وَاسْتَغْنَى عَمَّا لَذَّ وَطَابَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْآثَامَ وَيَرْتَكِبَ الْأَوْزَارَ فِي أَشْرَفِ الْبِقَاعِ وَأَجَلِّ الْأَزْمِنَةِ!!
وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ مَنْشَؤُهُ الْجَهْلُ؛ لِأَنَّ دُعَاةَ الْأُمَّةِ شَغَلُوهَا بِغَيْرِ مَا هُوَ حَقِيقَةُ الدِّينِ، شَغَلُوا النَّاسَ بِمَا لا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ.
هَذِهِ الْعِبَادَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُعْلِنَةُ -فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكَنَةٍ، وَنأْمَةٍ وَلَفْظَةٍ- بِتَوْحِيدِ الرَّبِّ الْجَلِيلِ الْأَجَلِّ، وَاتِّبَاعِ خَيْرِ الْبَشَرِ ﷺ؛ صَارَت في الجُمْلَةِ شَيْئًا آخَرَ.
وَالسَّبَبُ غِيَابُ التَّرْبِيَةِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْحَقِّ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمَمِ مَعَ الْوُلُوغِ فِي الْخُرَافَاتِ وَالْبِدَعِ، فَتَقْدِيمُ الرَّأْيِ وَالْهَوَى عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَدَّى إِلَى ظَوَاهِرَ لَا تُحْمَدُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشِّرْكِيَّاتِ فِي أَفْضَلِ الْأَزْمِنَةِ وَخَيْرِ الْبِقَاعِ!!
وَلَو رَأيتَ تَهَافُتَ النَّاسِ كَالْفَرَاشِ عَلَى النَّارِ عَلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُسْتَلِمِينَ بَارِكينَ، مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ فِي وَسَطِ الْمَطَافِ، وَالْمَطَافُ حَقُّ الطَّائِفِينَ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْتَجْلِبُونَ الْبَرَكَات مِنَ الْمَقْصُورَةِ دُونَ الْحَجَرِ، وَيَأْتُونَ بِالشِّرْكِيَّاتِ فِي أَجَلِّ مَوْطِنٍ وَأَعْظَمِ زَمَانٍ، مُعَادِينَ مُنَافِينَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ، إِذْ مَا أَرْسَلَهُ اللهُ إلَّا لِتَوْحِيدِهِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ وَإِظْهَارِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ فِي الْأَرْضِ، فَيُخَالَفُ هذَا كُلُّهُ وَيُؤْتَى بِالشِّرْكِ ظَاهِرًا، قَوْلًا وَفِعْلًا.
التَّدَافُعُ فِي الْمَطَافِ عَلَى الْمَقَامِ مَعَ الْحَاجِّ فِي الطَّوَافِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الصَّلَاةِ وَرَاءَ الْمَقَامِ، وَهُوَ فِي مُنْتَصَفِ الْمَطَافِ تَقْرِيبًا، الْحِرْصُ عَلَى الصَّلَاةِ قَرِيبًا مِنَ الْكَعْبَةِ مِمَّا يُؤدِّي إِلَى الْجُلُوسِ لِاحْتِلَالِ مَكَانٍ فِي الْمَطَافِ قَبْلَ الْأَذَانِ بِوَقْتٍ غَيْرِ قَصِيرٍ!
يَطُوفُ النَّاسُ مَعَ زِحَامٍ شَدِيدٍ يَجْعَلُ الطَّائِفَ لَا يَكَادُ يُرَكِّزُ فِي عِبَادَةِ الطَّوَافِ الْعَظِيمَةِ، فَلَا يَكَادُ يَعِي دُعَاءً، وَلَا يُرْسِلُ رَجَاءً، بَلْ هَمُّهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ الَّتِي تَلَاطَمَتْ فِيهَا الْأَجْسَادُ وَتَدَافَعَتْ فِيهِ الْمَنَاكِبُ، وَدِيسَتْ فِيهَا الْأَجْسَادُ بِالْأَقْدَامِ، وَلَمْ تُرَاعَى فِيهَا حُرْمَةٌ، أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا!!
وَيَأْتِي أَقْوَامٌ رُبَّمَا أَتَى بَعْضُهُمْ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُصَلِّي قَرِيبًا مِنَ الْكَعْبَةِ إِذَا أُذِّنَ لِلْفَرْضِ، فَيَجْلِسُ فِي الْمَطَافِ قَرِيبًا مِنَ الْكَعْبَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، حَتَّى يُشْغَلُ جِزْءٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمَطَافِ وَهُوَ حَقُّ الطَّائِفِينَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِازْدِحَامِ الْعَظِيمِ.
يَجْلِسُونَ قَبْلَ الْأَذَانِ بِوَقْتٍ غَيْرِ قَصِيرٍ، حَتَّى إِذَا مَا أُقِيمَ لِلصَّلَاةِ صَلَّوْا مَكَانَهُم، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى ارْتِبَاكٍ عَظِيمٍ وَخَطَرٍ جَسِيمٍ، مِمَّا يَجْعَلُ الطَّوَافَ وَهُوَ عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ مَعْرَكَةً صَاخِبَةً بَيْنَ الطَّائِفِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ الطَّائِفِينَ وَالْجَالِسينَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
((سَعَادَةُ الْأُمَّةِ وَنَجَاتُهَا فِي تَمَسُّكِهَا بِالتَّوْحِيدِ))
التَّوْحِيدُ هُوَ الْبِدَايَةُ لِدَعْوَةِ إِمَامِ الْمُوَحِّدِينَ، وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الدُّعَاةِ الصَّادِقِينَ الْمُتَّقِينَ نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ رَبِّنَا رَبِّ الْعَالَمِينَ -عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ-، قَالَ ﷺ: «يَا قَوْم! قُولُوا لَا إلهَ إلَّا اللهُ تُفْلِحُوا».
وَالتَّوْحِيدُ هُوَ النِّهَايَةُ الْحَمِيدَةُ وَالْعَاقِبَةُ السَّعِيدَةُ لِمَنْ سَارَ عَلَيْهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَتَعْلِيمًا وَدَعْوَةً، وَاعْتِقَادًا وَسُلُوكًا، وَسَبِيلًا وَمِنْهَاجًا وَسُنَّةً، وَحَيَاةً وَمَمَاتًا.
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام :162-163].
وَقَالَ ﷺ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ» .
وَقَالَ ﷺ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا لا إله إلَّا اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ» .
فَالتَّوْحِيدُ الْبَدْءُ وَالْمُنْتَهَى، وَالتَّوْحِيدُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ الدُّعَاةُ وَالْمُصْلِحُونَ، إِذْ هُوَ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ حَادَ عَنْهُ شَذَّ، وَمَنْ شَذَّ هَلَكَ، وَإِنَّمَا تَأْكُلُ الذِّئَابُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ وَإِخْوَانُهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُ مَا بَدَأُوا أَقْوَامَهُمْ بِشَيْءٍ قَبْلَهُ، بَدَأُوا أَقْوَامَهُمْ بِإِصْلَاحِ عَقِيدَتِهِمْ وَبِإِخْلَاصِ عِبَادَتِهِمْ، وَبِصَرْفِهَا لرَّبِّهِمْ وَحْدَهُ، تَحْقِيقًا لِلْهَدَفِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
هَذِهِ الْأُمَّةُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَفْضَلُ الْأُمَمِ، اخْتَارَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَفْضَلَ الْقِبْلَاتِ، كَمَا اخْتَارَ لَهُمْ أَفْضَلَ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ أَفْضَلَ الْكُتُبِ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ، وَخَصَّهُمْ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، وَمَنَحَهُمْ خَيْرَ الْأَخْلَاقِ، وَأَسْكَنَهُمْ خَيْرَ الْأَرْضِ.
فَمَاذَا تُرِيدُونَ بَعْدُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ؟!
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُشْغَلْ عَنْ تَعْلِيمِ حَقِيقَةِ الدِّينِ؛ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّ الْمَدَنيَّاتِ الصَاخِبَةَ حَوْلَ مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَجَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَتَضْطَرِمُ بِتَقَدُّمِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ سِيَاسَةً وَاقْتِصَادًا، وَقُوَّةً وَعَتَادًا، وَتَنْظِيمًا وَقَانُونًا.
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى بِالْحَقِّ الصَّافِي الْخَالِصِ الصُّرَاحِ، الَّذِي يَنْفِي الزَّيْفَ، وَالَّذِي لَا يُخَالِطُهُ الْكَدَرَ، فَاسْتَقَامَ أَمْرُ النَّاسِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ تَوْحِيدًا وَمُتَابَعَةً، فَنَهَضَتْ أُمَّةٌ هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ مَلَكَتْ زِمَامَ الْقُوَّةِ بِرُشْدٍ وَعَقْلٍ، وَعِلْمٍ وَعَدْلٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُوبَ مَسْلَكَهَا جَوْرٌ وَلَا ظُلْمٌ، وَأَدَّتْ أَمَانَةً، وَبَلَّغَتْ رِسَالَةً، حَتَّى طَغَتْ بِدَعٌ فَاشِيَةٌ، وَعَمَّتْ خُرَافَاتٌ هَادِرَةٌ، وَاشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ الْعَالِمُ بِغَيْرِهِ، فَتَبِعُوا الْأَرَاذِلَ وَتَرَكُوا الْأَكَابِرَ، وَصَارَتِ السُّنَّةُ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، فَصَارَ النَّاسُ إِلَى أَمْرٍ مَرِيجٍ.
صَفُّوا الدِّينَ، وَعَلِّمُوا حَقِيقَتَهُ، وَأَرْشِدُوا الْأُمَّةَ إِلَى اتِّبَاعِ نَبِيِّهَا ﷺ، وَدَعُوا الِاسْتِعجَالَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَعْجَلُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَقَدْ قَضَى وَقَدَّرَ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُعِزُّ وَلَا يُعْلِي إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا يَعْبُدُهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فَهَذِهِ شُرُوطٌ، فَمَنْ حَقَّقَهَا وُفِّيَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ بَخَسَهَا نُقِصَ عَلَيْهِ.
فَهَذِهِ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ, أُمَّةُ التَّوْحِيدِ مِنْ آدَمَ إِلَى آخِرِ الْمُوَحِّدِينَ, وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ بِالتَّوْحِيدِ, فَدِينُ الْمُرْسَلِينَ وَاحِدٌ وَهُوَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ؛ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ, لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.
هَذَا دِينُ الْمُرْسَلِينَ.
وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَمُخْتَلِفَةٌ عَلَى حَسَبِ الْأَقْوَامِ وَالْأَعْصَارِ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ بِالدِّينِ الْخَاتَمِ الْمُهَيْمِنِ عَلَى الْأَدْيَانِ قَبْلَهُ.
((فِي ذِكْرِ الْحَجِّ وَثَمَرَاتُهُ))
نَحُجُّ لِبَيْتٍ حَجَّهُ الرُّسْلُ قَبْلَنَا *** لِنَشْهَدَ نَفْعًا فِي الْكِتَابِ وُعِدْنَاهُ
دَعَانَا إِلَيْهِ اللَّهُ قَبْلَ بِنَائِهِ *** فَقُلْنَا لَهُ لَبَّيْكَ دَاعٍ أَجَبْنَاهُ
أَتَيْنَاكَ لَبَّيْنَاكَ جِئْنَاكَ رَبَّنَا *** إِلَيْكَ هَرَبْنَا وَالأَنَامَ تَرَكْنَاهُ
وَوَجْهَكَ نَبْغِي أَنْتَ لِلْقَلْبِ قِبْلَةٌ *** إِذَا مَا حَجَجْنَا أَنْتَ لِلْحَجِّ رُمْنَاهُ
فَمَا الْبَيْتُ مَا الأَرْكَانُ مَا الْحِجْرُ مَا الصَّفَا *** وَمَا زَمْزَمٌ أَنْتَ الَّذِي قَدْ قَصَدْنَاهُ
وَأَنْتَ مُنَانَا أَنْتَ غَايَةُ سُؤْلِنَا *** وَأَنْتَ الَّذِي دُنْيَا وَأُخْرَى أَرَدْنَاهُ
إِلَيْكَ شَدَدْنَا الرَّحْلَ نَخْتَرِقُ الْفَلا *** فَكَمْ سُدَّ سَدٌّ فِي سَوَادٍ خَرَقْنَاهُ
كَذَلِكَ مَا زِلْنَا نُحَاوِلُ سَيْرَنَا *** نَهَارًا وَلَيْلًا عِيسُنَا مَا أَرَحْنَاهُ
إِلَى أَنْ بَدَا إِحْدَى الْمَعَالِمِ مِنْ مِنًى *** وَهَبَّ نَسِيمٌ بِالْوِصَالِ نَشَقْنَاهُ
وَنَادَى بِنَا حَادِي الْبِشَارَةِ وَالْهَنَا *** فَهَذَا الْحِمَى هَذَا ثَرَاهُ غَشِينَاهُ
رُؤْيَةُ الْبَيْتِ:
وَمَا زَالَ وَفْدُ اللَّهِ يَقْصِدُ مَكَةً
إِلَى أَنْ بَدَا الْبَيْتُ الْعَتِيقُ وَرُكْنَاهُ
فَضَجَّتْ ضُيُوفُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَا
وَكَبَّرَتِ الْحُجَّاجُ حِينَ رَأَيْنَاهُ
وَقَدْ كَادَتِ الأَرْوَاحُ تَزْهَقُ فَرْحَةً
لِمَا نَحْنُ مِنْ عُظْمِ السُّرُورِ وَجَدْنَاهُ
طَوَافُ الْقُدُومِ:
فَطُفْنَا بِهِ سَبْعًا رَمَلْنَا ثَلاثَةً
وَأَرْبَعَةً مَشْيًا كَمَا قَدْ أُمِرْنَاهُ
كَذَلِكَ طَافَ الْهَاشِمِيُّ مُحَمَّدٌ
طَوَافَ قُدُومٍ مِثْلَ مَا طَافَ طُفْنَاهُ
وَسَالَتْ دُمُوعٌ مِنْ غَمَامِ جُفُونِنَا
عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِثْمِ ذَنْبٍ كَسَبْنَاهُ
وَنَحْنُ ضُيُوفُ اللَّهِ جِئْنَا لِبَيْتِه
نُرِيدُ الْقِرَى نَبْغِي مِنَ اللَّهِ حُسْنَاهُ
فَنَادَى بِنَا أَهْلاً ضُيُوفِي تَبَاشَرُوا
وَقَرُّوا عُيُونًا فَالْحَجِيجُ قَبِلْنَاهُ
غَدًا تَنْظُرُونِي فِي جِنَانِ خُلُودِكُمْ
وَذَاكَ قِرَاكُمْ مَعْ نَعِيمٍ ذَخَرْنَاهُ
فَأَيُّ قِرًى يَعْلُو قِرَانَا لِضَيْفِنَا
وَأَيُّ ثَوَابٍ مِثْلَ مَا قَدْ أُثِبْنَاهُ
وَكُلُّ مِسِيءٍ قَدْ أَقَلْنَا عِثَارَهُ
وَلا وَزَرَ إِلاَّ وَعَنْكُمُ وَضَعْنَاهُ
وَلا نَصَبٌ إِلاَّ وَعِنْدِي جَزَاؤُهُ
وَكُلُّ الَّذِي أَنْفَقْتُمُوهُ حَسَبْنَاهُ
سَأُعْطِيكُمُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مِثْلِهِ
فَطِيبُوا نُفُوسًا فَضْلُنَا قَدْ فَضَلْنَاهُ
فَيَا مَرْحَبًا بِالْقَادِمِينَ لِبَيْتِنَا
إِلَيَّ حَجَجْتُمْ لا لِبَيْتٍ بَنَيْنَاهُ
عَلَيَّ الْجَزَا مِنِّي الْمَثُوبَةُ وَالرِّضَى
ثَوَابُكُمُ يَوْمَ الْجَزَا أَتَوَلاَّهُ
فَطِيبُوا سُرُورًا وَافْرَحُوا وَتَبَاشَرُوا
وَتِيهُوا وَهِيمُوا بَابُنَا قَدْ فَتَحْنَاهُ
وَلا ذَنْبَ إِلاَّ قَدْ غَفَرْنَاهُ عَنْكُمُ
وَمَا كَانَ مِنْ عَيْبٍ عَلَيْكُمْ سَتَرْنَاهُ
فَهَذَا الَّذِي نِلْنَا بِيَوْمِ قُدُومِنَا
وَأَوَّلُ ضِيقٍ لِلصُّدُورِ شَرَحْنَاهُ
طَوَافُ الْوَدَاعِ:
وَبَاتَ حَجِيجُ اللَّهِ بِالْبَيْتِ مُحْدِقًا
وَرَحْمَةُ رَبِّ الْعَرْشِ ثَمَّتَ تَغْشَاهُ
تَدَاعَى رِفَاقٌ بِالرَّحِيلِ فَمَا تَرَى
سِوَى دَمْعِ عَيْنٍ بِالدِّمَاءِ مَزَجْنَاهُ
لِفُرْقَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَالْحَجَرِ الَّذِي
لأَجْلِهِمَا صَعْبَ الأُمُورِ سَلَكْنَاهُ
وَوَدَّعَتِ الْحُجَّاجُ بَيْتَ إِلَهِهَا
وَكُلُّهُمُ تَجْرِي مِنَ الْحُزْنِ عَيْنَاهُ
فَلِلَّهِ كَمْ بَاكٍ وَصَاحِبِ حَسْرَةٍ
يَوَدُّ بَأَنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَفَّاهُ
فَلَوْ تَشْهَدُ التَّوْدِيعَ يَوْمًا لِبَيْتِهِ
فَإِنَّ فِرَاقَ الْبَيْتِ مُرًّا وَجَدْنَاهُ
فَمَا فُرْقَةُ الأَوْلادِ وَاللَّهِ إِنَّهُ
أَمَرُّ وَأَدْهَى ذَاكَ شَيءٌ خَبَرْنَاهُ
فَمَنْ لَمْ يُجَرِّبْ لَيْسَ يَعْرِفُ قَدْرَهُ
فَجَرِّبْ تَجِدْ تَصْدِيقَ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ
لَقَدْ صُدِعَتْ أَكْبَادُنَا وَقُلُوبُنَا
لِمَا نَحْنُ مِنْ مُرِّ الْفِرَاقِ شَرِبْنَاهُ
وَوَاللَّهِ لَوْلا أَنْ نُّؤَمِّلَ عَوْدَةً
إِلَيْهِ لَذُقْنَا الْمَوْتَ حِينَ فُجِعْنَاهُ
ذِكْرُ الرَّحِيلِ إِلَى طَيْبَةَ وَزِيَارَةِ النَّبِيِّ ﷺ
وَمِنْ بَعْدِ مَا طُفْنَا طَوَافَ وَدَاعِنَا
رَحَلْنَا لِمَغْنَى الْمُصْطَفَى وَمُصَلاَّهُ
وَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الأَسِنَّةَ أُشْرِعَتْ
وَقَامَتْ حُرُوبٌ دُونَهُ مَا تَرَكْنَاهُ
وَتُمْلَكُ مِنَّا بِالْوُصُولِ رِقَابُنَا
وَيُسْلَبُ مِنَّا كُلُّ شَيءٍ مَلَكْنَاهُ
لَكَانَ يَسِيرًا فِي مَحَبَّةِ أَحْمَدٍ
وَبِالرُّوحِ لَوْ يُشْرَى الْوِصَالُ شَرَيْنَاهُ
وَرَبِّ الْوَرَى لَوْلا مُحَمَّدُ لَمْ نَكُنْ
لِطَيْبَةَ نَسْعَى وَالرِّكَابَ شَدَدْنَاهُ
وَلَوْلاهُ مَا اشْتَقْنَا الْعَقِيقَ وَلا قِبًا
وَلَوْلاهُ لَمْ نَهْوَ الْمَدِينَةَ لَوْلاهُ
هُوَ الْقَصْدُ إِنْ غَنَّتْ بِنَجْدٍ حُدَاتُنَا
وَإِلاَّ فَمَا نَجْدٌ وَسَلْعٌ أَرَدْنَاهُ
وَمَا مَكَّةٌ وَالْخَيْفُ قُل لِي وَلا مِنًى
وَمَا عَرَفَاتٌ قَبْلَ شَرْعٍ أَرَدْنَاهُ
بِهِ شَرُفَتْ تِلْكَ الأَمَاكِنُ كُلُّهَا
وَرَبُّكَ قَدْ خَصَّ الْحَبِيبَ وَأَعْطَاهُ
لِمَسْجِدِهِ سِرْنَا وَشُدَّتْ رِحَالُنَا
وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَوْقُنَا قَدْ كَشَفْنَاهُ
قَطَعْنَا إِلَيْهِ كُلَّ بَرٍّ وَمَهْمَهٍ
وَلا شَاغِلٌ إِلاَّ وَعَنَّا قَطَعْنَاهُ
كَذَا عَزَمَاتُ السَّائِرِينَ لِطَيْبَةٍ
رَعَى اللَّهُ عَزْمًا لِلْحبَيِبِ عَزَمْنَاهُ
وَكَمْ جَبَلٍ جُزْنَا وَرَمْلٍ وَحَاجِزٍ
وَلِلَّهِ كَمْ وَادٍ وَشِعْبٍ عَبَرْنَاهُ
تُرَنِّحُنَا الأَشْوَاقُ نَحْوَ مُحَمَّدٍ
((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ))
أَمَا وَالَّذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ=وَلَبَّوْا لَهُ عِنْدَ الْمُهَلِّ وَأَحْرَمُوا
وَقَدْ كَشَفُوا تِلْكَ الرُّؤُوسَ تَوَاضُعا=لِعِزَّةِ مَنْ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتُسْلِمُ
يُهِلُّونَ بِالْبَيْدَاءِ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا=لَكَ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ تَعْلَمُ
دَعَاهُمْ فَلَبَّوْهُ؛ رِضًا وَمَحَبةً=فَلَمَّا دَعَوْهُ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُــــــمُ
تَرَاهُمْ عَلَى الْأَنْضَاءِ شُعْثًا رُؤُوسُهُمْ=وَغُبْرًا وَهُمْ فِيهَا أَسَرُّ وَأَنْعَـــمُ
وَقَدْ فَارَقُوا الْأَوْطَانَ وَالْأَهْلَ رَغْبَةً=وَلَمْ تُثْنِهِمْ لَذَّاتُهُمْ وَالتَّنَعُّمُ
يَسِيرُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا=رِجَالًا وَرُكْبَانًا وَللهِ أَسْلَمُوا
((رُؤْيَةُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ))
وَلَمَّا رَأَتْ أَبْصَارُهُمْ بَيْتَهُ الَّذِي=قُلُوبُ الْوَرَى شَوْقًا إِلَيْهِ تَضَرَّمُ
كَأَنَّهُمُ لَمْ يَنْصَبُوا قَطُّ قَبْلَهُ=لِأَنَّ شَقَاهُمْ قَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُمُ
فَلِلهِ كَمْ مِنْ عَبْرَةٍ مُهَرَاقَةٍ!=وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا لَا تَقَدَّمُ
وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا=فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيُسْجِمُ
إِذَا عَايَنَتْهُ الْعَيْنُ زَالَ ظَلَامُهَا=وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ التَّأَلُّمُ
وَلَا يَعْرِفُ الطَّرْفُ الْمُعَايِنُ حُسْنَهُ=إِلَى أَنْ يَعُودَ الطَّرْفُ وَالشَّوْقُ أَعْظَمُ
وَلَا عَجَبٌ مِنْ ذَا فَحِينَ أَضَافَهُ=إِلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَنُ؛ فَهْوَ الْمُعَظَّمُ
كَسَاهُ مِنَ الْإجْلَالِ أَعْظَمَ حُلَّةٍ=عَلَيْهَا طِرَازٌ بِالْمَلَاحَةِ مُعْلِمُ
فَمِنْ أَجْلِ ذَا كُلُّ الْقُلُوبِ تُحِبُّهُ=وَتَخْضَعُ إِجْلَالًا لَهُ وَتُعَظِّمُ
((الذَّهَابُ إِلَى عَرَفَةَ))
وَرَاحُوا إِلَى التَّعْريفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً=وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ
فَلِلهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الْأَعْظَمُ الَّذِي=كَمَوْقِفِ يَوْمِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ
وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ=يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلَاكَهُ فَهْوَ أَكْرَمُ
يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً=وَإنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجُودُ وَأَرْحَمُ
فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ=وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَأُنْعِمُ
فَبُشْرَاكُمُ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي=بِهِ يَغْفِرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ
فَكَمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كُمِّلَ عِتْقُهُ!=وَآخَرُ يَسْتَسْعَى وَرَبُّكَ أَرْحَمُ
وَمَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَغْيَظَ فِي الْوَرَى=وَأَحْقَرَ مِنْهُ عِنْدَهَا وَهْوَ أَلْأَمُ
وَذَاكَ لِأَمْرٍ قَدْ رَآهُ فَغَاظَهُ=فَأَقْبَلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظًا وَيَلْطِمُ
وَقَدْ عَايَنَتْ عَيْنَاهُ مِنْ رَحْمَةٍ أَتَتْ=وَمَغْفِرَةٍ مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ تُقْسَمُ
بَنَى مَا بَنَى حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ=تَمَكَّنَ مِنْ بُنْيَانِهِ فَهْوَ مُحْكَمُ
أَتَى اللهُ بُنْيَانًا لَهُ مِنْ أَسَاسِهِ=فَخَرَّ عَلَيْهِ سَاقِطًا يَتَهَدَّمُ
وَكَمْ قَدْرُ مَا يَعْلُو الْبِنَاءُ وَيَنْتَهِي=إِذَا كَانَ يَبْنِيهِ وَذُو الْعَرْشِ يَهْدِمُ؟!
((التَّوْحِيدُ هُوَ شِعَارُ الْحَجِّ))
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِثَالًا لِلْعَبْدِ الْقَانِتِ الْمُنِيبِ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ﷺ ».
فَحَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، سُلُوكًا وَتَطْبِيقًا وَعَمَلًا، وَكَانَ للهِ مُتَوَاضِعًا.
نَحَرَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، نَحَرَهَا بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُنِيبَ وَأَنْ يُوَكِّلَ، وَلَكِنْ نَحَرَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَأَنَّمَا كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى عُمُرِهِ الشَّرِيفِ؛ إِذْ عَاشَ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ عَامًا ﷺ، وَوَكَّلَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في نَحْرِ تَمَامِ الْمِئَةِ.
ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ هَدْيِهِ كَمَا يَأْكُلُ الْحَجِيجُ، مُتَوَاضِعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ شِعَارُ الْحَجِّ, وَالْحَجُّ تَتَبَدَّى فِيهِ فِي كُلِّ مَظَاهِرِهِ, وَأَقْوَالِهِ, وَأَعْمَالِهِ, وَحَرَكَاتِهِ, وَسَكَنَاتِهِ تَوْحِيدُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَهُوَ تَدْرِيبٌ عَمَلَيٌّ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ, وَعَلَى قَصْدِهِ لَا قَصْدِ سِوَاهُ بِالْعِبَادَةِ, مَعَ إِفْرَادِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ بِكُلِّ عِبَادَةٍ, وَبِكُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكَنَةٍ, وَبِكُلِّ إِنْفَاقٍ, وَبِكُلِّ سَفَرٍ, وَبِكُلِّ حَلٍّ وَتَرْحَالٍ؛ كُلُّ ذَلِكَ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-, {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}؛ لِا لِسِوَاهُ.
فَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُحَقِّقَنَا بِالتَّوْحِيدِ, وَأَنْ يُحَقِّقَ فِينَا التَّوْحِيدَ, وَأَنْ يُحْيِيَنَا عَلَى التَّوْحِيدِ, وَأَنْ يَقْبِضَنَا عَلَى التَّوْحِيدِ, وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ جَاءَ بِالتَّوْحِيدِ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:مَظَاهِرُ التَّوْحِيدِ فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ