الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا

الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا

((الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ       .

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عَلَى الْحَقِّ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ))

فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ- أَنَّهُ بِالْحَقِّ نَزَلَ، أَيْ: مُتَضَمِّنًا لِلْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النِّسَاءِ: 166] أَيْ: مُتَضَمِّنًا عِلْمَ اللَّهِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُطْلِعَكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

وَقَوْلُهُ: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أَيْ: وَوَصَلَ إِلَيْكَ -يَا مُحَمَّدُ- مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا، لَمْ يُشَبْ بِغَيْرِهِ، وَلَا زِيدَ فِيهِ وَلَا نُقِصَ مِنْهُ، بَلْ وَصَلَ إِلَيْكَ بِالْحَقِّ؛ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِهِ شَدِيدُ الْقُوَى، الْقَوِيُّ الْأَمِينُ الْمَكِينُ الْمُطَاعُ فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ {إِلَّا مُبَشِّرًا} لِمَنْ أَطَاعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {وَنَذِيرًا} لِمَنْ عَصَاكَ مِنَ الْكَافِرِينَ)).

((وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ؛ لِأَمْرِ الْعِبَادِ وَنَهْيِهِمْ، وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أَيْ: بِالصِّدْقِ، وَالْعَدْلِ، وَالْحِفْظِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا} مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ بِالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ {وَنَذِيرًا} لِمَنْ عَصَى اللَّهَ بِالْعِقَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ مَا يُبَشِّرُ بِهِ وَيُنْذِرُ)).

لَقَدْ خَلَقَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِمَا بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَخَلْقُهُ قَائِمٌ عَلَى الْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 73].

لَقَدْ تَحَدَّثَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنِ الْحَقِّ حَدِيثًا وَافِيًا؛ لِمَا لَهُ مِنْ أَثَرٍ بَارِزٍ فِي اسْتِقَامَةِ الْحَيَاةِ، وَضَبْطِ مَوَازِينِهَا، وَلَيْسَ أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْلَالِ مِنْ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62].

(({ذَلِكَ} صَاحِبُ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَيِ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزَالُ وَلَا يَزُولُ، الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، كَامِلُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، صَادِقُ الْوَعْدِ الَّذِي وَعْدُهُ حَقٌّ، وَلِقَاؤُهُ حَقٌّ، وَدِينُهُ حَقٌّ، وَعِبَادَتُهُ هِيَ الْحَقُّ، النَّافِعَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى الدَّوَامِ.

{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ {هُوَ الْبَاطِلُ} الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، وَعِبَادَتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمُضْمَحِلٍّ فَانٍ، فَتَبْطُلُ تَبَعًا لِغَايَتِهَا وَمَقْصُودِهَا)).

(({ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}: الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ؛ لِأَنَّهُ ذُو السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، ذَلِيلٌ لَدَيْهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115-116].

(({أَفَحَسِبْتُمْ} أَيُّهَا الْخَلْقُ {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} أَيْ: سُدًى وَبَاطِلًا، تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ وَتَمْرَحُونَ، وَتَتَمَتَّعُونَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا، وَنَتْرُكُكُمْ لَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ، وَلَا نُثِيبُكُمْ وَلَا نُعَاقِبُكُمْ؟!! وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} لَا يَخْطُرُ هَذَا بِبَالِكُمْ، {فَتَعَالَى اللَّهُ} أَيْ: تَعَاظَمَ وَارْتَفَعَ عَنْ هَذَا الظَّنِّ الْبَاطِلِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الْقَدْحِ فِي حِكْمَتِهِ {الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فَكَوْنُهُ مَلِكًا لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ، حَقًّا فِي صِدْقِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، مَأْلُوهًا مَعْبُودًا؛ لِمَا لَهُ مِنَ الْكَمَالِ.. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَمَا دُونَهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، يَمْنَعُ أَنْ يَخْلُقَكُمْ عَبَثًا)).

وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: ].

(({ثُمَّ} بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ الْبَرْزَخِيَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ {رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} أَيِ: الَّذِي تَوَلَّاهُمْ بِحُكْمِهِ الْقَدَرِيِّ، فَنَفَّذَ فِيهِمْ مَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ، ثُمَّ تَوَلَّاهُمْ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، ثُمَّ رُدُّوا إِلَيْهِ لِيَتَوَلَّى الْحُكْمَ فِيهِمْ بِالْجَزَاءِ، وَيُثِيبَهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَى الشُّرُورِ وَالسَّيِّئَاتِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}.

((فَيَعْلَمُونَ انْحِصَارَ الْحَقِّ الْمُبِينِ فِي اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَأَوْصَافُهُ الْعَظِيمَةُ حَقٌّ، وَأَفْعَالُهُ هِيَ الْحَقُّ، وَعِبَادَتُهُ هِيَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُهُ حَقٌّ، وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ حَقٌّ، وَحُكْمُهُ الدِّينِيُّ وَالْجَزَائِيُّ حَقٌّ، وَرُسُلُهُ حَقٌّ؛ فَلَا ثَمَّ حَقٌّ إِلَّا فِي اللَّهِ وَمَا مِنَ اللَّهِ)).

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 34-36].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُبَيِّنًا عَجْزَ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَعَدَمَ اتِّصَافِهَا بِمَا يُوجِبُ اتِّخَاذَهَا آلِهَةً مَعَ اللَّهِ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} أَيْ: يَبْتَدِيهِ {ثُمَّ يُعِيدُهُ}؟!! وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالتَّقْرِيرِ، أَيْ: مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهِيَ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَزُ، {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ وَلَا مُعَاوِنٍ لَهُ عَلَى ذَلِكَ؟!! {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ: تُصْرَفُونَ وَتَنْحَرِفُونَ عَنْ عِبَادَةِ الْمُنْفَرِدِ بِالِابْتِدَاءِ وَالْإِعَادَةِ إِلَى عِبَادَةِ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟!!

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} بِبَيَانِهِ وَإِرْشَادِهِ، أَوْ بِإِلْهَامِهِ وَتَوْفِيقِهِ؟!! {قُلِ اللَّهُ وَحْدَهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} بِالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، وَبِالْإِلْهَامِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالْإِعَانَةِ إِلَى سُلُوكِ أَقْوَمِ طَرِيقٍ.

{أَمَّنْ لا يَهِدِّي} أَيْ: لَا يَهْتَدِي إِلا أَنْ يُهْدَى؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ، وَلِضَلَالِهِ، وَهِيَ شُرَكَاؤُهُمُ الَّتِي لَا تَهْدِي وَلَا تَهْتَدِي إِلَّا أَنْ تُهْدَى {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَكُمْ تَحْكُمُونَ هَذَا الْحُكْمَ الْبَاطِلَ بِصِحَّةِ عِبَادَةِ أَحَدٍ مَعَ اللَّهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ؟!!

فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي آلِهَتِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ أَوْصَافٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَلَا أَوْصَافٌ فِعْلِيَّةٌ تَقْتَضِي أَنْ تُعْبَدَ مَعَ اللَّهِ، بَلْ هِيَ مُتَّصِفَةٌ بِالنَّقَائِصِ الْمُوجِبَةِ لِبُطْلَانِ إِلَهِيَّتِهَا؛ فَلِأَيِّ شَيْءٍ جُعِلَتْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً؟!!

فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ أَقْبَحَ الْبُهْتَانِ، وَأَضَلَّ الضَّلَالِ؛ حَتَّى اعْتَقَدَ ذَلِكَ وَأَلِفَهُ، وَظَنَّهُ حَقًّا وَهُوَ لَا شَيْءَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ أَصْلًا عَقْلًا وَلَا نَقْلًا، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ، وَ{إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فَسَمَّوْهَا آلِهَةً، وَعَبَدُوهَا مَعَ اللَّهِ، {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ)).

وَكَانَ نَبِيُّنَا ﷺ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَقُولُ: ((اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ تحَاكَمْتُ؛ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، إنك إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)).

((مَعْنَى الْحَقِّ))

الْحَقُّ لُغَةً: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: حَقَّ الشَّيْءُ: وَجَبَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (ح ق ق) الَّتي تَدُلُّ عَلَى إِحْكَامِ شَيْءٍ وَصِحَّتِهِ، فَالْحَقُّ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، وَيُقَالُ: حَاقَّ فُلَانٌ فُلَانًا: إِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا غَلَبَهُ عَلَى الْحَقِّ قِيلَ: حَقَّهُ وَأَحَقَّهُ، وَاحْتَقَّ النَّاسُ فِي الدَّيْنِ: إِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ الْحَقَّ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {حَقِيقٌ عَلَيَّ} قَالَ: وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَمَنْ قَرَأَهَا: حَقِيقٌ عَلَى؛ فَمَعْنَاهَا: حَرِيصٌ عَلَى، وَيُقَالُ: اسْتَحَقَّ لَقْحُهَا: إِذَا وَجَبَ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ((الْحَقُّ خِلَافُ الْبَاطِلِ)).

وَالْحَقُّ: وَاحِدُ الْحُقُوقِ، وَقَوْلُهُمْ: لَحَقُّ لَا آتِيكَ، هُوَ يَمِينٌ لِلْعَرَبِ؛ يَرْفَعُونَهَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ اللَّامِ، وَإِذَا أَزَالُوا عَنْهَا اللَّامَ قَالُوا: حَقًّا لَا آتِيكَ.

وَالْحَاقَّةُ: الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهَا حَوَاقَّ الْأُمُورِ، وَقَوْلُهُمْ: أَحْقَقْتُ الشَّيْءَ؛ أَيْ: أَوْجَبْتُهُ، وَاسْتَحْقَقْتُهُ؛ أَيْ: اسْتَوْجَبْتُهُ.

وَتَحَقَّقَ عِنْدِي الْخَبَرُ: صَحَّ.

وَحَقَّقْتُ قَوْلَهُ وَظَنَّهُ تَحْقِيقًا؛ أَيْ: صَدَّقْتُ.

وَكَلَامٌ مُحَقَّقٌ؛ أَيْ: رَصِينٌ، وَثَوْبٌ مُحَقَّقٌ: إِذَا كَانَ مُحْكَمَ النَّسْجِ.

وَالْحَقُّ مِنْ صِفَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ:

{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ}.

{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَوابًا * ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآبًا}.

{إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا}.

الْحَقُّ وَالصِّدْقُ مُتَلَازِمَانِ:

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

{الم * اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ}.

وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَهُوَ الْبَغْيُ: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ}.

يَنْقَسِمُ الْحَقُّ بِحَسَبِ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَى الْآتِي:

حَقٌّ خَالِصٌ للهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: وَهُوَ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ، أَوْ هُوَ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.

وَحَقٌّ خَالِصٌ لِلْعِبَادِ: وَهُوَ مَصَالِحُهُمُ الْمُقَرَّرَةُ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ.

وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ؛ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ للهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلَّا وَفِيهِ حَقٌّ للهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ أَمَرَهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.

وَإِفْرَادُ نَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ بِجَعْلِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَقَطْ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَسْلِيطِ الْعَبْدِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِحَيْثُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَقَّيْنِ -حَقِّ اللهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ- مَوْكُولٌ لِمَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ ثُبُوتًا وَإِسْقَاطًا.

قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: ((أَصْلُ الْحَقِّ: الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَيُقَالُ عَلَى أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: يُقَالُ لِمُوجِدِ الشَّيْءِ بِسَبَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِي اللهِ -تَعَالَى-: هُوَ الْحَقُّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62].

الثَّانِي: يُقَالُ لِلْمُوجَدِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: فِعْلُ اللهِ -تَعَالَى- كُلُّهُ حَقٌّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 33] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [يونس: 5].

الثَّالِثُ: فِي الِاعْتِقَادِ لِلشَّيْءِ الْمُطَابِقِ لِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ؛ كَقَوْلِنَا: اعْتِقَادُ فُلَانٍ فِي الْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَقٌّ.

الرَّابِعُ: لِلْفِعْلِ وَالْقَوْلِ الْوَاقِعِ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ، وَبِقَدْرِ مَا يَجِبُ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ؛ كَقَوْلِنَا: فِعْلُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [يونس: 13].

وَ{حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13].

وَقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ} [المؤمنون: 71]، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ اللهَ -تَعَالَى-، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.

وَيُقَالُ: أَحْقَقْتُ كَذَا، أَيْ: أَثْبَتُّهُ حَقًّا، أَوْ حَكَمْتُ بِكَوْنِهِ حَقًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال: 8]؛ فَإِحْقَاقُهُ الْحَقَّ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: بِإِظْهَارِ الْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ.

وَالثَّانِي: بِإِكْمَالِ الشَّرِيعَةِ وَبَثِّهَا فِي الْكَافَّةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33])).

 ((الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

إِنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمِحْوَرِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: لَفْظَ (الْحَقِّ)، فَهُوَ لَفْظٌ ذُو حُضُورٍ بَارِزٍ فِي الْعَدِيدِ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هُوَ الْحَقُّ الْقَوِيمُ، وَدَعْوَةٌ إِلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ.

وَهَذِهِ أَهَمُّ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ عَلَيْهَا لَفْظُ (الْحَقِّ) فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

لَفْظُ (الْحَقِّ) وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْ (283) مَوْضِعٍ، جَاءَ فِي أَكْثَرِهَا بِصِيغَةِ الِاسْمِ؛ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:119]، وَجَاءَ فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [فصلت: 25].

وَلَفْظُ (الْحَقِّ) وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى مَعَانٍ عِدَّةٍ، مِنْهَا:

*جَاءَ بِمَعْنَى ((اللهِ -سُبْحَانَهُ-))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71].

قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ: ((الْحَقُّ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30].

وَقَالَ تَعَالَى:  {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}  [المؤمنون: 116].

((فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْحَقُّ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ دُونَهُ بَاطِلٌ، وَالْحَقُّ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، وَيُقَالُ: حَقَّ الشَّيْءُ يَحِقُّ حَقًّا: تَأْوِيلُهُ يَجِبُ وُجُوبًا؛ فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حَقٌّ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِهِ وَكُلُّ مَا عَادَ إِلَيْهِ حَقٌّ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ حَقٌّ عَلَى الْعِبَادِ امْتِثَالُهُ، أَيْ: وَاجِبٌ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.

فَاللهُ الْحَقُّ، أَيْ: هُوَ الْحَقُّ، وَمَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ بَاطِلٌ.

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْحَقُّ، أَيْ: ذُو الْحَقِّ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَجَمِيعِ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ)).

((اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْحَقُّ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ، كَامِلُ الصِّفَاتِ وَالنُّعُوتِ، وُجُودُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا وُجُودَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ بِالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ وَالْكَمَالِ مَوْصُوفًا، وَلَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ بِالْإِحْسَانِ مَعْرُوفًا، فَقَوْلُهُ حَقٌّ، وَفِعْلُهُ حَقٌّ، وَلِقَاؤُهُ حَقٌّ، وَرُسُلُهُ حَقٌّ، وَكُتُبُهُ حَقٌّ، وَدِينُهُ حَقٌّ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هِيَ الْحَقُّ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ)).

فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْمَوْجُودُ الْحَقُّ، الْإِلَهُ الْحَقُّ، الْمَعْبُودُ الْحَقُّ الَّذِي يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ، وَيَحْكُمُ بَيْنَ خَلْقِهِ بِالْحَقِّ، وَيُوجِدُ الْأَشْيَاءَ بِالْحَقِّ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ؛ فَاسْمُ الْحَقِّ يَقَعَ عَلَى ذَاتِ اللهِ -تَعَالَى-، وَعَلَى صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [الأنعام: 5].

قَالَ الْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُ: ((الْقُرْآنُ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 29] يَعْنِي: الْقُرْآنَ، كَمَا قَالَ الشَّوْكَانِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

قَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَعْنِي -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِالْحَقِّ: هَذَا الْقُرْآنَ)).

لَقَدْ جَاءَ نَبِيُّنَا ﷺ بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، يَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37].

(({بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ}: هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللهِ مُكَذِّبًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: شَاعِرٌ مَجْنُونٌ!! كَذَبُوا، مَا مُحَمَّدٌ كَمَا وَصَفُوهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ، بَلْ هُوَ للهِ نَبِيٌّ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِ)).

وَقَالَ رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ۚ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66].

(({وَكَذَّبَ بِهِ} أَيْ: بِالْقُرْآنِ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ وَالْهُدَى وَالْبَيَانِ {قَوْمُكَ} يَعْنِي: قُرَيْشًا {وَهُوَ الْحَقُّ} أَيِ: الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ حَقٌّ { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} أَيْ: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، وَلَسْتُ بِمُوَكَّلٍ بِكُمْ؛ كَقَوْلِهِ {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] أَيْ: إِنَّمَا عَلَيَّ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فَمَنِ اتَّبَعَنِي سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ خَالَفَنِي فَقَدْ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((الْإِسْلَامِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} [الإسراء: 81].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَعْنِي: دِينَ اللهِ الْإِسْلَامَ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} (الأنفال:8).

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: يُظْهِرُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَيُعِزُّ)).

*وَجَاءَ بِمَعْنِى ((الْعَدْلِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((أَيْ: وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَحِسَابُهُ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا جَوْرَ فِيهِ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص: 22].

قَالَ الطَّبَرِيُّ: ((فَاقْضِ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ)). 

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((التَّوْحِيدِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص: 75].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: لَا إِلَهَ غَيْرُهُ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} (الرعد:14).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: {دَعْوَةُ الْحَقِّ}: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عَنَى بِالدَّعْوَةِ الْحَقِّ: تَوْحِيدَ اللهِ، وَشَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((الصِّدْقِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} (الأنعام:37).

قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيِ: الصِّدْقُ الْوَاقِعُ لَا مَحَالَةَ، يُرِيدُ أَنَّ مَا وَعَدَهُ حَقٌّ كَائِنٌ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 176].

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: بِالصِّدْقِ)).

*وَجَاءَ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] ((أَيْ: وَجَبَ الْعَذَابُ مِنِّي لَهُمْ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 6] ((أَيْ: كَذَلِكَ وَجَبَتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ)).

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((الْحَقِّ)) الَّذِي يُضَادُّ الْبَاطِلَ، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 6] ((أَيْ: إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَنَّ مَنْ سِوَاهُ بَاطِلٌ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62].

*وَجَاءَ بِمَعْنَى الدَّيْنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((وَلْيُمْلِلِ الْمَدِينُ عَلَى الْكَاتِبِ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} [البقرة: 282].

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْأَحَقِّيَّةِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة: 247] ((أَيْ: نَحْنُ أَوْلَى بِالْمُلْكِ مِنْهُ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13].

قَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَاللهُ أَوْلَى بِكُمْ أَنْ تَخَافُوا عُقُوبَتَهُ بِتَرْكِكُمْ جِهَادَهُمْ، وَتَحْذَرُوا سَخَطَهُ عَلَيْكُمْ)).

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] ((أَيْ: نَصِيبٌ مَقْسُومٌ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((أَيْ: فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيبٌ مُقَرَّرٌ لِذَوِي الْحَاجَاتِ)).  

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((الْحَاجَةِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود: 79] ((أَيْ: مَا لَنَا فِيهِنَّ حَاجَةٌ)).

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((الْبَيَانِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71].

قَالَ قَتَادَةُ: ((الْآنَ بَيَّنْتَ لَنَا)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود: 120] ((أَيْ: جَاءَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانٌ لِخَبَرِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ)).

*وَجَاءَ بِمَعْنَى ((التَّأْكِيدِ))، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة: 111] ((أَيْ: مَا قَضَى بِهِ -سُبْحَانَهُ- أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ)).

وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [الكهف: 98].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({بَلَى} أَيْ: بَلَى سَيَكُونُ ذَلِكَ، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أَيْ: لَا بُدَّ مِنْهُ)).

كَمَا عَبَّرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِالْحَقِّ عَنْ أُمُورِ الْغَيْبِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْبَأَنَا بِهَا نَبِيُّنَا ﷺ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سبح-: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19].

((وَجَاءَتْ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، أَيْ: كَشَفَتْ لَكَ عَنِ الْيَقِينِ الَّذِي كُنْتَ تَمْتَرِي فِيهِ)).

وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَةَ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39].

((ذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَرُوجُ فِيهِ الْبَاطِلُ، وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الْكَذِبُ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُومُ الرُّوحُ -وَهُوَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ- وَالْمَلَائِكَةُ -أَيْضًا-؛ يَقُومُ الْجَمِيعُ صَفًّا خَاضِعِينَ لِلَّهِ، {لَا يَتَكَلَّمُونَ} إِلَّا بِمَا أَذِنَ لَهُمُ اللهُ بِهِ.

فَلَمَّا رَغَّبَ وَرَهَّبَ، وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ؛ قَالَ: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} أَيْ: عَمَلًا وَقَدَمَ صِدْقٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 83-96].

(({فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} أَيْ: فَهَلَّا إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ الْمُحْتَضِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْحَالُ أَنَّا نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ بِعِلْمِنَا وَمَلَائِكَتِنَا؛ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ.

{فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أَيْ: فَهَلَّا إِذْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ غَيْرُ مَبْعُوثِينَ وَلَا مُحَاسَبِينَ وَمُجَازِينَ.. تُرْجِعُونَ الرُّوحَ إِلَى بَدَنِهَا {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}!! وَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ أَنَّكُمْ عَاجِزُونَ عَنْ رَدِّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا؛ فَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ تُقِرُّوا بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَإِمَّا أَنْ تُعَانِدُوا وَتُعْلَمَ حَالُكُمْ وَسُوءُ مَآلِكُمْ.

ذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَحْوَالَ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ: (الْمُقَرَّبِينَ، وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَالْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي دَارِ الْقَرَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهُمْ فِي آخِرِهَا عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَالْمَوْتِ، فَقَالَ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَدَّوُا الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ؛ {فَـ} لَهُمْ {رَوْحٌ} أَيْ: رَاحَةٌ وَطُمَأْنِينَةٌ، وَسُرُورٌ وَبَهْجَةٌ، وَنَعِيمُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، {وَرَيْحَانٌ}: وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ لَذَّةٍ بَدَنِيَّةٍ؛ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: الرَّيْحَانُ هُوَ الطِّيبُ الْمَعْرُوفُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِنَوْعِ الشَّيْءِ عَنْ جِنْسِهِ الْعَامِّ {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} جَامِعَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا، فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَيُبَشَّرُ الْمُقَرَّبُونَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الَّتِي تَكَادُ تَطِيرُ مِنْهَا الْأَرْوَاحُ فَرَحًا وَسُرُورًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}.

وَقَدْ فُسِّرَ قَوْلُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}: وَهُمُ الَّذِينَ أَدَّوُا الْوَاجِبَاتِ، وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ؛ وَإِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ بَعْضُ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تُخِلُّ بِتَوْحِيدِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ؛ {فَـ} يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: {سَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ: سَلَامٌ حَاصِلٌ لَكَ مِنْ إِخْوَانِكَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَيْ: يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُحَيُّونَهُ عِنْدَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ وَلِقَائِهِمْ لَهُ، أَوْ يُقَالُ لَهُ: سَلَامٌ لَكَ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ وَالْعَذَابِ؛ لِأَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ سَلِمُوا مِنَ الذُّنُوبِ الْمُوبِقَاتِ.

{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} أَيِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، وَضَلُّوا عَنِ الْهُدَى؛ {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أَيْ: ضِيَافَتُهُمْ يَوْمَ قُدُومِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِمْ، وَتَصِلُ إِلَى أَفْئِدَتِهِمْ، وَإِذَا اسْتَغَاثُوا مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ وَالظَّمَأِ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ، بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا.

 

{إِنَّ هَذَا} الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ جَزَاءِ الْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ، خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَتَفَاصِيلَ ذَلِكَ {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أَيِ: الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَقَدْ أَشْهَدَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْأَدِلَّةَ الْقَوَاطِعَ عَلَى ذَلِكَ؛ حَتَّى صَارَ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ كَأَنَّهُمْ ذَائِقُونَ لَهُ، مُشَاهِدُونَ لِحَقِيقَتِهِ، فَحَمِدُوا اللَّهَ -تَعَالَى- عَلَى مَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمِنْحَةِ الْجَسِيمَةِ.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} فَسُبْحَانَ رَبِّنَا الْعَظِيمِ وَتَعَالَى وَتَنَزَّهَ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا)).

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)) أَيْ: نَطَقَ بِهَا عَالِمًا بِمَعْنَاهَا، عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا.

((وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)): فَشَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَأَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَاجْتَنَبَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَلَمْ يَعْبُدِ اللهَ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.

((وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)): مَمْلُوكٌ وَلَيْسَ ابْنًا، وَرَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.

((وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ)) أَيْ: خَلَقَهُ بِكَلِمَتِهِ، قَالَ: كُنْ، فَكَانَ.

((أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)) أَيْ: مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى، وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ.. ((وَرُوحٌ مِنْهُ)).

((والْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ)): وَعْدٌ ثَابِتٌ لَا شَكَّ فِيهِ.

((أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ)) أَيْ: وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ذُنُوبٌ دُونَ الشِّرْكِ.

الْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ وَلَكِنْ خَصَّهُمَا الرَّسُولُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَقَرٌّ وَنِهَايَةٌ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّاِر؛ فَالْجَنَّةُ دَارُ الْأَبْرَارِ، وَالنَّارُ دَارُ الْفُجَّارِ.

فَإِنَّنَا نُقِرُّ بِأَنَّ اللهَ لَا رَبَّ غَيْرُهُ *** إِلَـٰـهٌ عَلَى الْعَرْشِ الْعَظِيمِ مُمَجَّدُ

وَنَشْهَدُ أَنَّ اللهَ مَعْبُودُنَا الَّذِي *** نُخَصِّصُهُ بِالحُبِّ ذُلًّا وَنُفْرِدُ

فَلِلَّهِ كُلُّ الْـحَمْدِ وَالْـمَجْدِ وَالثَّنَا *** فَمِنْ أَجْلِ ذَا كُلٌّ إِلَى اللهِ يَقْصِدُ

تُسَبِّحُهُ الْأَمْلَاكُ وَالْأَرْضُ وَالسَّمَا *** وَكُلُّ جَمِيعِ الْـخَلْقِ حَقًّا وَتَحْمَدُ

تَنَزَّهَ عَنْ نِدٍّ وَكُفْءٍ مُمَاثِلٍ *** وَعَنْ وَصْفِ ذِي النُّقْصَانِ جَلَّ الـمُوَحَّدُ

وَنُثْبِتُ أَخْبَارَ الصِّفَاتِ جَمِيعَهَا *** وَنَبْرَأُ مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ كَانَ يَجْحَدُ

فَلَيْسَ يُطِيقُ الْعَقْلُ كُنْهَ صِفَاتِهِ *** فسَلِّمْ لِـمَا قَالَ الرَّسُولُ مُحَمَّدُ

هُوَ الصَّمَدُ الْعَالِي لِعِظَمِ صِفَاتِهِ *** وَكُلُّ جَمِيعِ الْـخَلْقِ للهِ يَصْمُدُ

عَلِىٌّ عَلَا ذَاتًا وَقَدْرًا وَقَهْرُهُ *** قَرِيبٌ مُجِيبٌ بِالوَرَى مُتَوَدِّدُ

هُوَ الْحَيُّ وَالْقَيُّومُ ذُو الْجُودِ وَالْغِنَى *** وَكُلُّ صِفَاتِ الْحَمْدِ للهِ تُسْنَدُ

أَحَاطَ بِكُلِّ الْخَلْقِ عِلْمًا وَقُدْرَةً *** وَبِرًّا وَإِحْسَانًا فَإِيَّاهُ نَعْبُدُ

وَيُبْصِـرُ ذَرَّاتِ الْعَوَالِمِ كُلَّهَا *** وَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَيَشْهَدُ

لَهُ الْـمُلْكُ وَالْحَمْدُ الْـمُحِيطُ بِمُلْكِهِ *** وَحِكْمَتُهُ الْعُظْمَى بِهَا الْخَلْقُ تَشْهَدُ

وَنَشْهَدُ أَنَّ اللهَ يَنْزِلُ فِي الدُّجَى *** كَمَا قَالَهُ الْـمَبْعُوثُ بِالحَقِّ أَحْمَدُ

وَنَشْهَدُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ رُسْلَهُ *** بِآيَاتِهِ لِلْخَلْقِ تَهْدِي وَتُرْشِدُ

وَفَاضَلَ بَيْنَ الرُّسْلِ وَالْخَلْقِ كُلِّهِمْ *** بِحِكْمَتِهِ جَلَّ العَظِيمُ الْـمُوَحَّدُ

فَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَا *** نَبِيُّ الهُدَى وَالعَالَـمِينَ مُحَمَّدُ

وَخَصَّ لَهُ الرَّحمٰنُ أَصْحَابَهُ الأُلَى *** أَقَامُوا الْهُدَى وَالدِّينَ حَقًّا وَمَهَّدُوا

فَحُبُّ جَمِيعِ الآلِ وَالصَّحْبِ عِنْدَنَا *** مَعَاشِرَ أَهْلِ الْحَقِّ فَرْضٌ مُؤَكَّدُ

وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ كَلَامَهُ *** هُوَ اللَّفْظُ وَالمَعْنَى جَمِيعًا مُجَوَّدُ

وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَأَنَّى لِخَلْقِهِ *** بِقَوْلٍ كَقَوْلِ اللهِ إِذْ هُوَ أَمْجَدُ

وَنَشْهَدُ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّـرَّ كُلَّهُ *** بِتَقْدِيرِهِ وَالْعَبْدُ يَسْعَى وَيَجْهَدُ

وَإِيمَانُنَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَنِيَّةٌ *** مِنَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَاتِ فِيهَا نُقَيِّدُ

وَيَزْدَادُ بِالطَّاعَاتِ مَعْ تَرْكِ مَا نَهَى *** وَيَنْقُصُ بِالعِصْيَانِ جَزْمًا وَيَفْسُدُ

نُقِرُّ بِأَحْوَالِ القِيَامَةِ كُلِّهَا *** وَمَا اشْتَمَلَتْهُ الدَّارُ حَقًّا وَنَشْهَدُ

تَفَكَّرْ بِآثَارِ العَظِيمِ وَمَا حَوَتْ *** مَمَالِكُهُ العُظْمَى لَعَلَّكَ تَرْشُدُ

أَلَمْ تَرَ هَٰذَا اللَّيْلَ إِذْ جَاءَ مُظْلِمًا *** فَأَعْقَبَهُ جَيْشٌ مِنَ الصُّبْحِ يَطْرُدُ

تَأَمَّلْ بِأَرْجَاءِ السَّمَاءِ جَمِيعِهَا *** كَوَاكِبُهَا وَقَّادَةٌ تَتَرَدَّدُ

أَلَيْسَ لَهَا مُحْدِثٌ مُتَصَـرِّفٌ *** حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَاحِدٌ مُتَفَرِّدُ

بَلَى وَالَّذِي بِالحَقِّ أَتْقَنَ صُنْعَهَا *** وَأَوْدَعَهَا الأَسْرَارَ للهِ تَشْهَدُ

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِـمَنْ كَانَ مُوقِنًا *** وَمَا تَنْفَعُ الْآيَاتُ مَنْ كَانَ يَجْحَدُ

وَفِي النَّفْسِ آيَاتٌ وَفِيهَا عَجَائِبٌ *** بِهَا يُعْرَفُ اللهُ العَظِيمُ وَيُعْبَدُ

لَقَدْ قَامَتِ الْآيَاتُ تَشْهَدُ أَنَّهُ *** إِلَٰهٌ عَظِيمٌ فَضْلُهُ لَيْسَ يَنْفَدُ

فَمَنْ كَانَ مِنْ غَرْسِ الْإِلَهِ أَجَابَهُ *** وَلَيْسَ لِـمَـنْ وَلَّـى وَأَدْبَـرَ مُسْعِـدُ

عَقِيدَتُنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نَحْرِصُ عَلَيْهَا.

هَذِهِ أَهَمُّ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ عَلَيْهَا لَفْظُ (الْحَقِّ) فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَبِالْوُقُوفِ عَلَى مَدْلُولَاتِ هَذَا اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ لَنَا سَعَةُ دَلَالَتِهِ، وَسَبَبُ اعْتِنَاءِ الْقُرْآنِ بِهِ؛ تِبْيَانًا لِمَفَاهِيمِ الْإِيمَانِ، وَتَثْبِيتًا لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ.

 ((الْحُقُوقُ للهِ وَلِرَسُولِهِ))

لَقَدْ مَيَّزَ اللهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ حَقِّهِ الْخَاصِّ، وَحَقِّ رَسُولِهِ الْخَاصِّ، وَالْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ.
وَاعْلَمْ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُقُوقَ ثَلَاثَةٌ:

حَقٌّ للهِ وَحْدَهُ، لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ: وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ.

وَحَقٌّ خَاصٌّ لِرَسُولِهِ ﷺ: وَهُوَ التَّعْزِيرُ وَالتَّوْقِيرُ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ اللَّائِقِ، وَاتِّبَاعِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ.

وَحَقٌّ مُشْتَرَكٌ: وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ وَمَحَبَّةُ رَسُولِهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ الْحُقُوقَ الثَّلَاثَةَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَمَّا حَقُّهُ الْخَاصُّ؛ فَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ، وَالتَّرْغِيبُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُحْصَى.

وَقَدْ جَمَعَ اللهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، فَهَذَا مُشْتَرَكٌ.

{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، فَهَذَا خَاصٌّ بِالرَّسُولِ.

{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9]، فَهَذَا حَقُّ للهِ وَحْدَهُ.

وَقَوْلُهُ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ،
وَكَذَلِكَ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه} [التوبة: 62]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، فَهَذَا مُشْتَرَكٌ.

{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِاللهِ -تَعَالَى-.

وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ أَنَّ الْحَقَّ الْمُشْتَرَكَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا للهِ مِنْهُ يَثْبُتُ لِرَسُولِهِ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ فِي كُلِّ خَصَائِصِهِ، بَلِ الْمَحَبَّةُ وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ للهِ لَا بُدَّ أَنْ يَصْحَبَهَا التَّعَبُّدُ وَالتَّعْظِيمُ للهِ، وَالْخُضُوعُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً.

وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالرَّسُولِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ حُبٌّ فِي اللهِ، وَطَاعَةٌ للهِ، فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، بَلْ حَقُّ الرَّسُولِ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ حَقِّ اللهِ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُ بِحَقِّ رَسُولِهِ وَطَاعَتِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَعُبُودِيَّةً لَهُ.

وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ (حَقُّ الرَّسُولِ) لِتَعَلُّقِهِ بِالرَّسُولِ؛ وَإِلَّا فَجَمِيعُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ رَسُولِهِ، وَحُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَزْوَاجِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْجِيرَانِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، وَالْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَغَيْرِهِمْ؛ كُلُّهُ حَقٌّ للهِ -تَعَالَى-، فَيَقُومُ بِهِ الْعَبْدُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَتَعَبُّدًا لَهُ، وَقِيَامًا بِحَقِّ ذِي الْحَقِّ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِ؛ إِلَّا الرَّسُولَ؛ فَإِنَّ الْإِحْسَانَ مِنْهُ كُلَّهُ إِلَى أُمَّتِهِ، فَمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ إِلَّا عَلَى يَدَيْهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا-.

((بَعْضُ تَطْبِيقَاتِ الْحَقِّ فِي حَيَاتِنَا))

إِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْحُقُوقِ فِي الْقُرْآنِ: حَقَّ الْمَالِ، فَمِنْ ذَلِكَ: إِنْفَاقُ الْأَمْوَالِ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-{وَالَّذِينَ فِي أَمْــوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُـومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24-25].

وَقال تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يُنْفِقَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنَ الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللهِ: أَنْ يُنْفِقَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَهْلِهِ؛ مِنَ الزَّوْجَاتِ، وَالْأُمَّهَاتِ، وَالْآبَاءِ، وَالْأَوْلَادِ، وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ طَاعَةٌ للهِ، وَبِرٌّ وَأَجْرٌ؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَذَهَبَ سَلْمَانُ لِزِيَارَةِ أَخِيهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ، وَوَجَدَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً يَعْنِي: فِي ثِيَابِ الْمِهْنَةِ-؛ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ بَعْلٍ.

فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ؟!

فَقَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا.

فَكَنَّتْ عَنِ اعْتِزَالِهِ إِيَّاهَا وَعَدَمِ قُرْبَانِهِ مِنْهَا بِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّفِيفَةِ الَّتِي لَا تَخْدِشُ، وَلَا يَفْعَلُ فِعْلَهَا النَّسِيمُ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا.

فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَدَّمَ إِلَيْهِ- يَعْنِي: إِلَى سَلْمَانَ- طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ.

فَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ.

قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنِّي صَائِمٌ.

قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ.

فَأَكَلَ مَعَهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ حَتَّى صَلَّيَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَلَمَّا رَجَعَا قَامَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِكَيْ يُصَلِّيَ.

فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: نَمْ، فَنَامَ.

ثُمَّ قَامَ لِيُصَلِّيَ، فَقَالَ: نَمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي السَّحَرِ الْأَعْلَى قَالَ: الْآنَ فَقُمْ، فَصَلَّيَا مَا شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُصَلِّيَا، ثُمَّ أَخْبَرَهُ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي صَدَّقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)).

فَلَمَّا أَخْبَرَ بِهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَسُولَ اللهِ ﷺ؛ قَالَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)). فَاعْتَمَدَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ بِهَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ زَوَّجَهُ، فَلَمْ يَكْشِفْ لِأَهْلِهِ سِتْرًا، ثُمَّ ذَهَبَ عَمْرٌو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ، ثُمَّ أَعْلَمَ النَّبِيَّ ﷺ بِحَالِهِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).

فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِذَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِبَصِيرَةٍ وَوَعْيٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ نَصَبًا فِي الْأَخْذِ بِهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِتَعَالِيمِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِصَدَقَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: ((عِنْدِي دِينَارٌ)).

قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ».

قَالَ: ((عِنْدِي آخَرُ)).

قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى زَوْجَتِكَ».

قَالَ: ((عِنْدِي آخَرُ)).

قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ، ثُمَّ أَنْتَ أَبْصَرُ». الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ.

وَمِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَفْرُوضَةٍ: الصَّدَقَةُ، وَلِلتَّرْغِيبِ فِيهَا قَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البَقَرَة: 177].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البَقَرَة: 280].

وَقَالَ ﷺ كَمَا جَاءَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ...))، ذَكَرَ مِنْهُمْ:

((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ)).

وَصَدَقَةُ السِّرِّ -عِبَادَ اللهِ- أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271].

وَذَلِكَ لِأَنَّها أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ؛ إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ وَإِعْلَانِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ.. مِنَ اقْتِدَاءِ النَّاسِ بِالمتَصَدِّقِ.

وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهَا عَلَى الْمُحْتَاجِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البَقَرَة: 264].

وَالصَّدَقَةُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَلُ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: ((أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَالصَّدَقَةُ فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ أَفْضَلُ؛ قَالَ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البَلَد: 14-16].

كَمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَبْعَدِينَ؛ فَقَدْ أَوْصَى اللهُ بِالْأَقَارِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى قَرِيبهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإِسْرَاء: 26].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ)).

وَفِي رِوَايَةِ ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)).

اعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ:

- نَحْوُ مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَصِلَةِ إِخْوَانِكَ، وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ، وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ، وَإِنْذَارِ مُعْسِرٍ، وَإِقْرَاضِ مُقْتَرِضٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذَّارِيَات: 19].

- وَيَجِبُ إِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَكِسْوَةُ الْعَارِي، وَسَقْيُ الظَّمْآنِ.

بَلْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ؛ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُم كُلَّهَا.

- كَمَا أَنَّهُ يُشْرَعُ لِمَنْ حَصَلَ عَلَى مَالٍ وَبِحَضْرَتِهِ أُنَاسٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُكْتَسَبِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [النِّسَاء: 8]

وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ.

فَمَا أَجْمَلَهُ! وَمَا أَجَلَّهُ! وَمَا أَحْكَمَ تَشْرِيعَهُ!

((لَقَدْ رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ كَرَمًا، وَرَهَّبَ مِنَ الْإِمْسَاكِ وَالِادِّخَارِ شُحًّا؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَلَفْظُهُ: ((إِنَّ مَلَكًا بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضِ الْيَوْمَ يُجْزَ غَدًا، وَمَلَكٌ بِبَابٍ آخَرَ يَقُولُ: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا))، وَحَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا عَبْدِي! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ! فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا بِيَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((لَا يَغِيضُهَا)) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ: لَا يَنْقُصُهَا.

عِبَادَ اللهِ! لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَخْشَى عَلَى أُمَّتِهِ الْفَقْرَ، بَلْ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَسْطِ الدُّنْيَا، وَمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنْ زَهْرَتِهَا، فَقَالَ ﷺ: ((فَوَاللهِ! مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ؛ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟)).

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللهُ)) أَيْ: نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ -رِوَايَةً-، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ)). الْحَدِيثَ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا)).

قَالُوا: ((وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((بَرَكَاتُ الْأَرْضِ)).

((أَرَادَ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَبِبَرَكَاتِ الْأَرْضِ نَمَاءَهَا وَمَا يَخْرُجُ مِنْ نَبَاتِهَا)).

((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا)).

قَالُوا: ((وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((بَرَكَاتُ الْأَرْضِ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟)).

قَالَ: ((لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ؛ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ)).

((إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ) أَيْ: يُقَارِبُ الْقَتْلَ.

((إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ)): قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((النِّهَايَةِ)): ((الْخَضِرُ -بِكَسْرِ الضَّادِ-: نَوْعٌ مِنَ الْبُقُولِ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِهَا وَجَيِّدِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ))؛ فَهَذَا مَثَلٌ لِلْمُقْتَصِدِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِ الْبُقُولِ وَجَيِّدِهَا الَّتِي يُنْبِتُهَا الرَّبِيعُ بِتَوَالِي أَمْطَارِهِ فَتَحْسُنُ وَتَنْعُمُ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْبُقُولِ الَّتِي تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي بَعْدَ هَيْجِ الْبُقُولِ وَيُبْسِهَا؛ حَيْثُ لَا تَجِدُ سِوَاهَا، فَلَا تَرَى الْمَاشِيَةَ تُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهَا، وَلَا تَسْتَمْرِؤُهَا.

فَضَرَبَ آكِلَةَ الْخَضِرِ مِنَ الْمَوَاشِي مَثَلًا لِمَنْ يَقْتَصِدُ فِي أَخْذِ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا، وَلَا يَحْمِلُهُ الْحِرْصُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، فَهُوَ بِنَجْوَةٍ مِنْ وَبَالِهَا كَمَا نَجَتْ آكِلَةُ الْخَضِرِ؛ فَإِنَّهَا تَأْكُلُ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا؛ اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ -اجْتَرَّ الْبَعِيرُ، الْجِرَّةُ: مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ مِنْ بَطْنِهِ لِيَمْضُغَهُ، ثُمَّ يَبْلَعَهُ-، ثُمَّ اجْتَرَّتْ، وَبَالَتْ، وَثَلَطَتْ -أَيْ: خَرَجَ رَجِيعُهَا عَفْوًا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ؛ لِاسْتِرْخَاءِ ذَاتِ بَطْنِهَا، فَيَبْقَى نَفْعُهَا، وَيَخْرُجُ فُضُولُهَا، وَلَا يَتَأَذَّى بِهَا-، وَثَلَطَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ)).

((إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ؛ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ؛ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ)).

قَالَ الْأَزْهَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِيهِ مَثَلَانِ، ضَرَبَ أَحَدَهُمَا لِلْمُفْرِطِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا، وَمَنْعِ مَا جَمَعَ مِنْ حَقِّهِ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الْآخَرُ؛ فَضَرَبَهُ لِلْمُقْتَصِدِ فِي جَمْعِ الْمَالِ، وَبَذْلِهِ فِي حَقِّهِ)).

وَحَقِيقَةُ الِابْتِلَاءِ بِالْمَالِ كَسَائِرِ أُمُورِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. وَاضِحَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

((أَهَمِّيَّةُ حُقُوقِ الْمِيرَاثِ))

إِنَّ حُقُوقَ الْمِيرَاثِ مِنْ أَهَمِّ الْحُقُوقِ الَّتِي أَوْلَاهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عِنَايَةً خَاصَّةً، فَلَمْ يَتْرُكِ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَضِيَّةَ تَقْسِيمِهَا، بَلْ سَمَّاهَا حُدُودًا، وَوَعَدَ مَنْ يُقِيمُهَا بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ، كَمَا تَوَعَّدَ -سُبْحَانَهُ- مَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهَا بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَالْعَذَابِ الْمُهِينِ، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13-14].

((أَيْ: هَذِهِ الْفَرَائِضُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْمَيِّتِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ وَفَقْدِهِمْ لَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، هِيَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَلَا تُجَاوِزُوهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَنْ يُطِعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أَيْ: فِيهَا، فَلَمْ يَزِدْ بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَنْقُصْ بَعْضًا بِحِيلَةٍ وَوَسِيلَةٍ، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَفَرِيضَتِهِ وَقِسْمَتِهِ {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ أَيْ لِكَوْنِهِ غَيَّرَ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلِهَذَا يُجَازِيهِ بِالْإِهَانَةِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الْمُقِيمِ)).

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا طُلِبَ مِنْهُ مُوَافَقَةُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي مَسْأَلَةِ: بِنْتٍ، وَبِنْتِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ يَعْنِي: فِي الْمِيرَاثِ-، فَأَعْطَى الْبِنْتَ النِّصْفَ، وَالْأُخْتَ النِّصْفَ. قَالَ: ((لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذَنْ- وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ -تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ-، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ)).

فَأُخْبِرَ  أَبُو مُوسَى -وَكَانَ حُكْمُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا-، وَطُلِبَ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يُوَافِقَ أَبَا مُوسَى، فَقَالَ: ((لَقَدْ ضَلَلْتُ -إِذَنْ- وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ -يَعْنِي: إِنْ وَافَقْتُ أَبَا مُوسَى-، بَلْ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللهِ  ﷺ ))، فَقَضَى بِهَذَا.

فَلَمَّا أُخْبِرَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَكُمْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

عَلَى الْمَرْءِ أنْ يَتَعَلَّمَ دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتوَقَّى الْإِنسَانُ الشَّرَّ إِلَّا إِذَا عَرَفَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

عَرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لَكِنْ لِتَوَقِّيهِ   =   وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ يَقَعْ فِيهِ

الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِنَ الشُّرُورِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَكَيْفَ يَبْتَعِدُ عَنْهُ؟!!

قَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَقِيدَةِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِهِ أَنَّ هَذَا مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ، كمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْمَوَارِيثِ -مَثَلًا-!!

فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ عَقِيدَةٌ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا تُوَرَّثُ الْبِنْتُ، وَيَسْتَنْكِفُ وَيَسْتَكْبِرُ أَنْ يَصِيرَ مَا كَانَ لِأَبِيهِ إلَى رَجُلٍ غَرِيبٍ هُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ -مَثَلًا-، كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ هَذَا!!

وَيُحَاوِلُ جَاهِدًا أَنْ يَتَمَلَّصَ مِنْ إِعْطَاءِ أُخْتِهِ حَقَّهَا!!

وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا حَرَّمَهُ الله..

فَإذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْحَرَامِ، وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ آكِلًا مِنْ حَرَامٍ، وَمُطْعِمًا أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَمُنْفِقًا مِنَ الْحَرَامِ، وَيَنْبُتُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَرَامِ.

وَلَنْ يُبَارَكَ لَهُ؛ إِذْ يَأكُلُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيُبْقِي لَهُمْ مِيرَاثًا مِنَ الْحَرَامِ؛ فَلَنْ يُبَارَكَ لَا فِيهِ، وَلَا فِي أَهْلِهِ، وَلَا فِي أَوْلَادِهِ، وَلَا فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ حَرَامٍ أَصْلًا!!

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَعَلَّمَ دِينَ اللهِ، وَأنْ يَجتَهِدَ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

((الْحَقُّ نَقِيضُ الْبَاطِلِ))

إِنَّ اسْتِعْمَالَاتِ الْحَقِّ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَلَعَلَّ مِنْ أَهَمِّ تِلْكَ الِاسْتِعْمَالَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِمَفْهُومِ الْحَقِّ: الْآيَاتُ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّهُ نَقِيضٌ لِلْبَاطِلِ؛ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].

 (({وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}: وَالْحَقُّ هُوَ مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَيُعْلِنَ: قَدْ جَاءَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} أَيِ: اضْمَحَلَّ وَتَلَاشَى، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} أَيْ: هَذَا وَصْفُ الْبَاطِلِ؛ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ صَوْلَةٌ وَرَوَجَانٌ إِذَا لَمْ يُقَابِلْهُ الْحَقُّ، فَعِنْدَ مَجِيءِ الْحَقِّ يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ، فَلَا يَبْقَى لَهُ حَرَاكٌ؛ وَلِهَذَا لَا يُرَوَّجُ الْبَاطِلُ إِلَّا فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَمْكِنَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْعِلْمِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ)).

وَقَوْلِهِ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42].

(({وَلا تَلْبِسُوا} أَيْ: تَخْلِطُوا {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}، فَنَهَاهُمْ عَنْ شَيْئَيْنِ: عَنْ خَلْطِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَكِتْمَانِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ وَالْعِلْمِ تَمْيِيزُ الْحَقِّ، وَإِظْهَارُ الْحَقِّ؛ لِيَهْتَدِيَ بِذَلِكَ الْمُهْتَدُونَ، وَيَرْجِعَ الضَّالُّونَ، وَتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُعَانِدِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَصَّلَ آيَاتِهِ، وَأَوْضَحَ بَيِّنَاتِهِ؛ لِيَمِيزَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُهْتَدِينَ مِنْ سَبِيلِ الْمُجْرِمِينَ، فَمَنْ عَمِلَ بِهَذَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ فَهُوَ مِنْ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ وَهُدَاةِ الْأُمَمِ.

وَمَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فَلَمْ يُمَيِّزْ هَذَا مِنْ هَذَا مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَكَتَمَ الْحَقَّ الَّذِي يَعْلَمُهُ وَأُمِرَ بِإِظْهَارِهِ؛ فَهُوَ مِنْ دُعَاةِ جَهَنَّمَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَقْتَدُونَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ بِغَيْرِ عُلَمَائِهِمْ، فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ)).

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 8].

(({لِيُحِقَّ الْحَقَّ} بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الشَّوَاهِدِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى صِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ، {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} بِمَا يُقِيمُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ عَلَى بُطْلَانِهِ {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، فَلَا يُبَالِي اللَّهُ بِهِمْ)).

وَقَوْلِهِ -جَلَّ شَأْنُهُ-:  {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: ].

(({ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَيْ: ذُو الْحَقِّ؛ فَدِينُهُ الْحَقُّ، وَعِبَادَتُهُ حَقٌّ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهُ النَّصْرَ بِحُكْمِ وَعْدِهِ الْحَقِّ، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أَيِ: الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا اسْتِحْقَاقَ لَهَا فِي الْعِبَادَاتِ، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} أَيِ: الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، وَالْعَالِي عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ، الْمُقَدَّسُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِجَلَالِهِ {الْكَبِيرُ} أَيِ: الْمَوْصُوفُ بِالْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ وَكِبَرِ الشَّأْنِ، وَقِيلَ: الْكَبِيرُ ذُو الْكِبْرِيَاءِ)).

 ((الْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنَ الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ وَالْأُصُولِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِالْتِبَاسُ وَالِاشْتِبَاهُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِ الْحَقِّ وَاحِدًا أَمْ مُتَعَدِّدًا؟ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَقِّ فَهُو عَلَى الْبَاطِلِ، كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَحْسَبُ أَنَّ الْحَقَّ يَتَعَدَّدُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَعَدَّدُ، بَلِ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.

حَسِبَ أَقْوَامٌ أَنَّ بَعْضَ صُوَرِ الِاخْتِلَافِ تُؤَدِّي إِلَى الْقَنَاعَةِ بِأَنَّ الْحَقَّ يَتَعَدَّدُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَعَدَّدُ، وَالْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَنْ لَمْ يُصِبِ الْحَقَّ فَهُوَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَهُوَ عَلَى الضَّلَالِ.

وَهَذَا يَدْعُو الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ إِلَى تَحَرِّي وَجْهِ الْحَقِّ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ حَتَّى يَكُونَ عَلَى قَنَاعَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ الْحَقِيقِ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَقِّ فَهُوَ عَلَى الضَّلَالِ.

{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]؟!! فَالْقِسْمَةُ ثُنَائِيَّةٌ.

{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50].

الْقِسْمَةُ ثُنَائِيَّةٌ أَيْضًا، إِنْ لَمْ تَسْتَجِبْ لِرَسُولِ اللهِ؛ فَأَنْتَ مُتَّبِعٌ لِهَوَاكَ، لَا ثَالِثَ.

فَالنَّاسُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَجِيبٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ.

وَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ الْحَقِّ، النَّاسُ: إِمَّا مُحِقٌّ، وَإِمَّا مُبْطِلٌ، إِمَّا عَلَى الْحَقِّ، وَإِمَّا عَلَى الضَّلَالِ، لَا ثَالِثَ.

وَلَكِنْ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ مِنَ الْكِتَابِ، وَمِنَ السُّنَّةِ، وَمِنْ عَمَلِ الْأَصْحَابِ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى الصَّوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟

لَقَدْ أَقَامَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ)) عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ دَلِيلًا، وَذَكَرَهَا -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ: أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، إِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْحَقِّ فَأَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ، لَا ثَالِثَ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْغَفْلَةَ قَدْ أَحَاطَتْ بِكَثِيرٍ مِنَ الْخَلْقِ، لَا يَتَحَرُّونَ الْحَقَّ، وَلَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ، يَتَّبِعُونَ كُلَّ نَاعِقٍ، وَيَكُونُونَ مُبْطِلِينَ ضَالِّينَ مُضِلِّينَ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ الْحَقِيقِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ!!

مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: قَوْلُ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]؟!!

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-كَمَا فِي ((تَفْسِيرِهِ)): ((حَكَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ تَوْحِيدُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ فِي نَظَائِرِهَا، وَهِيَ مَسَائِلُ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ)).

الْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا فِي جِهَتَيْنِ، وَلَا فِي ثَلَاثٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَلَا أَكْثَرَ، بَلِ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَقِّ فَهُوَ عَلَى الْبَاطِلِ.

وَدَلِيلٌ ثَانٍ؛ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: ١٠٥].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ١٠3].

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْآيَاتُ النَّاهِيَةُ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، الْمُتَضَمِّنَةُ لِذَمِّهِ كُلُّهُا  شَهَادَةٌ صَرِيحَةٌ بِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللهِ وَاحِدٌ، وَمَا عَدَاهُ فَخَطَأٌ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَوَابًا؛ لَمْ يَنْهَ اللهُ وَرَسُولُهُ عَنِ الْخِلَافِ، وَلَا ذَمَّهُ)).

فَالْكُلُّ عَلَى صَوَابٍ؛ فَلِمَاذَا يَنْهَى عَنِ الْخِلَافِ؟!!

وَلِمَاذَا يَذُمُّ الْخِلَافَ؟!!

إِذَا كَانَ الْكُلُّ مُصِيبًا؛ فَلِمَ يُنْهَى عَنِ الْخِلَافِ إِذَنْ؟!!

وَلَكِنْ نَهَى اللهُ عَنِ الْخِلَافِ، وَذَمَّ اللهُ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ، فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَالْحَقُّ لَا يَتَعَدَّدُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَقَدْ أَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَيْسَ بِصَوَابٍ)).

هَذِهِ أَدِلَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُصِبِ الْحَقَّ فَقَدْ أَصَابَ ضِدَّهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -فِيمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ- ((أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى سَعْدٍ، فَأَتَى عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجِدِ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: -أَيْ: قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِلْأَنْصَارِ-: ((قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ)).

فَقَالَ: ((هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ)) يَعْنِي: بَنِي قُرَيْظَةَ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ يَا سَعْدُ.

فَقَالَ سَعْدٌ: ((تَقْتُلُ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيهِمْ)).

فَقَالَ ﷺ: ((لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ -تَعَالَى- الْمَلِكِ)).

فَانْظُرْ كَيْفَ أَثْنَى النَّبِيُّ ﷺ عَلَى سَعْدٍ بِقَوْلِهِ: ((لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ -تَعَالَى- الْمَلِكِ))، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ سَعْدًا وَافَقَ حُكْمَ اللهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ هَذَا الْحُكْمِ مَا وَافَقَ حُكْمَ اللهِ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ.

وَدَلِيلٌ آخَرُ: مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَأَخْطَأَ؛ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)).

هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَقَّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِلتَّصْرِيحِ بِتَخْطِئَةِ الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ، هَذَا وَاضِحٌ جِدًّا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ، مَنْ آتَاهُ اللهُ ذَرْوًا مِنْ عَقْلٍ يَفْهَمُ هَذَا عَلَى وَجْهِهِ؛ أَنَّ الْحَقَّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُصِبِ الْحَقَّ فَهُوَ عَلَى الْبَاطِلِ، فَهُوَ عَلَى ضِدِّهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ فَأَصَابَ فَهُوَ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا يَمْلِكُ الْأَدَاةَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا أَنْ يُمْضِيَ حُكْمًا  فِيهِ.

فِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ فِيمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ؛ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا)).

 وَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ، قَدْ يُصِيبُهُ الْعَبْدُ أَوْ يُخْطِئُهُ، وَوَجْهُ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مَا تَزَالُ تَتَنَزَّلُ، وَيَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَجَعَلَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ وَاحِدَةً، فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ يَتَعَدَّدُ لَكَانُوا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ، وَلَكِنْ جَعَلَهُمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ ﷺ: ((كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)).

قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)).

فَهَذَا سَبِيلُ النَّجَاةِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ-.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ قَوْلَهُ ﷺ: ((إِلَّا وَاحِدَةً)) قَدْ أَعْطَى بِنَصِّهِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَقٌ أَيْضًا؛ لَمْ يَقُلْ: ((إِلَّا وَاحِدَةً)) )).

وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، فَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ فَقَدْ وَقَعَ عَلَى ضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَأَخْطَأَ الْحَقَّ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ؛ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ لَا تَشْتَبِهُ بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دِينَهُ وَاضِحًا، لَا الْتِبَاسَ فِيهِ وَلَا الْتِوَاءَ، وَلَا اعْوِجَاجَ وَلَا غُمُوضَ.

احْذَرْ هَذَا؛ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ الْحَقَّ يَتَعَدَّدُ، هُوَ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، إِنْ لَمْ تُصِبْهُ وَقَعْتَ عَلَى ضِدِّهِ، وَهُوَ الْبَاطِلُ.

فَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ، وَلَا تُخْدَعَنَّ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَعَدَّدُ، وَهُوَ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ، وَجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَاحْرِصْ عَلَيْهِ.

قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا الْحَقُّ إِلَّا وَاحِدٌ، قَوْلَانِ مُخْتَلِفَانِ يَكُونَانِ صَوَابًا جَمِيعًا؟!! مَا الْحَقُّ وَالصَّوَابُ إِلَّا وَاحِدٌ)).

احْذَرْ أَنْ يُلَبَّسَ عَلَيْكَ!

مَا الْحَقُّ إِلَّا وَاحِدٌ..

وَمَا الْحَقُّ إِلَّا فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ..

وَمَا الْحَقُّ إِلَّا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ..

أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُصِيبِينَ؛ فَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ، لَا فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي عَمَلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، بَلِ الَّذِي وَرَدَ عَنِ الضِّدِّ مِنْ هَذَا؛ فَاحْذَرِ الْمُضِلِّينَ الضَّالِّينَ، الْخَالِفِينَ الْمُخَالِفِينَ؛ حَتَّى لَا يُضِلُّوكَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالْزَمْ مِنْهَاجَ النُّبُوَّةِ، وَأَثَرَ أَصْحَابِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ حَتَّى تَكُونَ مِنَ النَّاجِينَ.

قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ كَمَا فِي ((أُصُولِ السُّنَّةِ)): ((لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ كُلُّهَا هَوًى وَاحِدًا؛ لَقَالَ الْقَائِلُ: الْحَقُّ فِيهِ، فَلَمَّا تَشَعَّبَتْ وَاخْتَلَفَتْ؛ عَرَفَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَفَرَّقُ)).

الْحَقُّ لَا يَتَفَرَّقُ وَلَا يَتَعَدَّدُ، الْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلِهَذَا تَجِدُ الْمَسَائِلَ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ عَلَى أَقْوَالٍ، وَإِنَّمَا الْقَوْلُ الَّذِي بُعِثَ الرَّسُولُ ﷺ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهَا)).

هُمْ يَخْتَلِفُونَ عَلَى أَقْوَالٍ، وَالَّذِي بُعِثَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ.

وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللهُ وَرَحِمَنِي وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ- أَنَّ الصِّرَاعَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي كَوْنِهِ، وَأَنَّ الصِّرَاعَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَائِمٌ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، وَسَيَظَلُّ هَذَا الصِّرَاعُ قَائِمًا حَتَّى يَرِثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَرْضَ وَمَا وَمَنْ عَلَيْهَا.

فَالصِّرَاعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ سُنَّةَ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا.

الصِّرَاعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مُسْتَمِرٌّ وَقَائِمٌ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الْخَلِيقَةَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2].

{ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد: 3].

فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصِّرَاعَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَائِمًا أَبَدًا؛ فَلَا تُخْدَعَنَّ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِذَلِكَ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَخْبَرَنَا فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بِأَنَّ هَذَا الصِّرَاعَ سَيَظَلُّ قَائِمًا أَبَدًا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ فَلَا تَفْزَعَنَّ؛ فَهِيَ سُنَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خَلْقِهِ، وَلَا تُخْدَعَنَّ؛ فَالْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ؛ فَتَلَمَّسْهُ!

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّجَاةَ كُلَّ النَّجَاةِ إِنَّمَا هِيَ فِي اقْتِفَاءِ آثَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ -كَمَا فِي حَدِيثِ الِافْتِرَاقِ- ((أَنَّ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً))، وَيَعْنِي بِالْأُمَّةِ: أُمَّةَ الْإِجَابَةِ، لَا أُمَّةَ الدَّعْوَةِ؛  لِأَنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْمُلَبِّسِينَ الْمُضِلِّينَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا عَنَى أُمَّةَ الدَّعْوَةِ؛ فَيَجْعَلُونَ الْهِنْدُوسَ فِرْقَةً، وَالْبُوذِيِّينَ فِرْقَةً، وَعَبَدَةَ الْأَشْجَارِ فِرْقَةً، وَيَجْعَلُونَ هَؤُلَاءِ فِرَقًا، وَيَقُولُونَ: أَهْلُ الْإِسْلَامِ جَمِيعًا هُمُ النَّاجُونَ، وَهُمْ فِرْقَةٌ، وَهَذَا عَجِيبٌ!!

((سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي)): هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي هِيَ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ((عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)).

قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)).

فَمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ فَلْيَعْرِفْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ فَلْيَلْزَمْ غَرْزَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.

فَاتَّقِ اللهَ أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ الْمُسْلِمُ فِي نَفْسِكَ!

اتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ!

وَاتَّقِ اللهَ فِي مُسْتَقْبَلِكَ، وَفِي حَيَاتِكَ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَانِيَةٍ، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْأُخْرَى.

اتَّقِ اللهَ؛ فَإِنَّكَ حَرِيصٌ عَلَى حَيَاتِكَ الدُّنْيَا وَهِيَ ذَاهِبَةٌ فَانِيَةٌ، وَمَهْمَا أُوتِيتَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؛ فَإِمَّا أَنْ يَزُولَ عَنْكَ، وَإِمَّا أَنْ تَزُولَ عَنْهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنْتَ تَحْرِصُ عَلَيْهَا حِرْصًا شَدِيدًا يَسْتَغْرِقُ وَقْتَكَ، وَيَسْتَنْفِذُ جُهْدَكَ، وَيُقِضُّ عَلَيْكَ مَضْجَعَكَ، وَتَلْهَثُ لَهَثَانًا عَظِيمًا مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ أَمْرٍ يَسِيرٍ!!

فَاتَّقِ اللهِ فِي آخِرَتِكَ؛ فَإِنَّمَا هِيَ جَنَّةٌ أَبَدًا، أَوْ نَارٌ أَبَدًا.

((خـُطُورَةُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ))

إِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَقِّ مِنْ أَسْوَأِ مَا يَكُونُ أَثَرًا، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ: هُوَ التَّوَلِّي عَنْهُ،  وَعَدَمُ قَبُولِهِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْإِعْرَاضُ بِمَعْنَى الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ.

وَالثَّانِي: الْإِعْرَاضُ بِمَعْنَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ خُطُورَةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ-: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} ]الأعراف: ١٤٦.[

فَأَخْبَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ فَهْمَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَيَصْرِفُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ عَنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ؛ لِذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قَالَ: أَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِي)).

فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ حَرَمَهُ اللهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَخَذَلَهُ، وَلَمْ يَفْقَهْ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَرُبَّمَا انْقَلَبَتْ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ فَاسْتَحْسَنَ الْقَبِيحَ، وَاسْتَقْبَحَ الْحَسَنَ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ-: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ]الأنفال: ٣٢.[

وَهَذَا مِنْ عُتُوِّهِمْ، وَشِدَّةِ جَهْلِهِمْ، وَعِظَمِ عِنَادِهِمْ، وَشِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ، فَهَلَّا قَالُوا: فَاهْدِنَا إِلَيْهِ، {إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ]الأنفال: ٣٢ ٣٣].

فَقَوْلُهُمْ هَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ قُبْحًا، وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ عُتُوًّا، وَأَعْلَى مَا يَكُونُ اسْتِكْبَارًا، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مُسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ لَقَالُوا: فَاهْدِنَا لَهُ، وَوَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِهِ، وَلَكِنِ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ، وَقَدَّمُوا طَلَبَ الْعُقُوبَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ۚ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ]العنكبوت: ٥٣ ٥٤.[

{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}  ]ص: ١٦.[

وَكَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} ]المعارج: ١ ٣[

وَكَذَلِكَ الْجَهَلَةُ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ]الشعراء: ١٨٧[

وَقَالَ هَؤُلَاءِ: {إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-:  {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: ٩٣.[

{وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أَيْ: فِي شَدَائِدِهِ وَأَهْوَالِهِ الْعَظِيمَةِ، وَكُرَبِهِ الشَّنِيعَةِ؛ لَرَأَيَتْ أَمْرًا هَائِلًا، وَحَالَةً لَا يَقْدِرُ الْوَاصِفُ أَنْ يَصِفَهَا {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} إِلَى أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الْمُحْتَضِرِينَ بِالضَّرْبِ وَالْعَذَابِ، يَقُولُونَ لَهُمْ عِنْدَ مُنَازَعَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَقَلَقِهَا، وَتَعَصِّيهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْأَبْدَانِ: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أَيْ: تُجْزَوْنَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ الَّذِي يُهِينُكُمْ وَيُذِلُّكُمْ وَيُخْزِيكُمُ اللهُ بِهِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَإِنَّ هَذَا {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} مِنْ كَذِبِكُمْ عَلَيْهِ، وَرَدِّكُمْ لِلْحَقِّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} ] الزخرف: ٧٤ ٧٨.[

 ذَكَرَ سَبَبَ شِقْوَتِهِمْ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلْحَقِّ، وَمُعَانَدَتُهُمْ لَهُ {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ}: بَيَّنَّاهُ لَكُمْ، وَوَضَّحْنَاهُ وَفَسَّرْنَاهُ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}: وَلَكِنْ كَانَتْ سَجَايَاكُمْ لَا تَقْبَلُهُ، وَلَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَإنَّمَا تَنْقَادُ لِلْبَاطِلِ، وَتُعَظِّمُهُ، وَتَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَتَأَبَاهُ، وَتُبْغِضُ أَهْلَهُ؛ فَعُودُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِالْمَلَامَةِ، وَانْدَمُوا حَيْثُ لَا تَنْفَعُكُمُ النَّدَامَةُ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا ۚ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ]الأحقاف: ٣٤ [

عَاقِبَةُ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ تَؤُولُ إِلَى الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، وَالْعَذَابِ الْعَظِيمِ: {قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا ۖ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: ٥٢].

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: حَيْثُ خَسِرُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَحَيْثُ فَاتَهُمُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ، وَحَيْثُ حَصَلَ لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ كُلُّ بَاطِلٍ قَبِيحٍ، وَفِي مُقَابَلَةِ النَّعِيمِ كُلُّ عَذَابٍ أَلِيمٍ، فَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: ٥٣].

وَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: ٢٢].

الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكُرْبَةٌ جَسِيمَةٌ، وَاللهِ! مَا أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ مَنْ ذَكَرَ رَبَّهُ فَأَحْدَثَ ذِكْرُ رَبِّهِ فِي قَلْبِهِ تُقَاةً، مَا أَعْرَضَ أَحَدٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ إِلَّا أَظْلَمَ عَلَيْهِ وَقْتُهُ، وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَكَانَ فِي عِيشَةٍ هِيَ الضَّنْكُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ مِنَ النَّتَائِجِ السَّيِّئَةِ مَا لَا يُحْصَى عَدَدًا، وَمِنَ الْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ مَا لَا يُسْتَقْصَى أَبَدًا، وَعَوَاقِبُهُ وَنَتَائِجُهُ السَّيِّئَةُ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ:

*فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ؛ فَهُمْ أَظْلَمُ الْخَلْقِ طُرًّا.

*وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ الْأَكِنَّةَ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْرِضِينَ؛ حَتَّى لَا تَفْقَهَ الْحَقَّ.

*وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُنْسِي الْعَبْدَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ؛ فَيَظَلُّ تَائِهًا عَنِ الْحَقِّ، مُعْرِضًا عَنْهُ -عِيَاذًا بِاللَّهِ، وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

*وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْوِقْرَ -وَهُوَ: الصَّمَمُ- فِي آذَانِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ.

*وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ حَكَمَ عَلَى الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ أَبَدًا.

هَذِهِ الْعُقُوبَاتُ جَمَعَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي آيَةٍ كَرِيمَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: ٥٧].

*وَمِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ: انْتِقَامُ اللهِ مِنَ الْمُعْرِضِينَ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: ٢٢].

*وَمِنْ آثَارِ ذَلِكَ وَنَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ، وَمِنْ عَوَاقِبِهِ الْوَخِيمَةِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ الْمُعْرِضَ كَالْحِمَارِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْمُشْرِكِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: ٤٩ ٥١].

*وَمِنْ ذَلِكَ: الْإِنْذَارُ لِلْمُعْرِضِينَ بِصَاعِقَةٍ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، أَنَّ اللهَ أَنْذَرَ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ بِصَاعِقَةٍ كَصَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: ١٣].

*وَمِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ: أَنْ يَعِيشَ الْمُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه: ١٢٤].

يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ۚ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ} [طه: ١٢٤ ١٢٧].

*مِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ: أَنَّ اللهَ يَسْلُكُ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ عَذَابًا صَعَدًا، وَيَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ مُتَرَاكِمًا، وَيَجْعَلُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: ١٧].

*وَمِنْهُ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقَيِّضُ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ الْقُرَنَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: ٣٦-37].

{وَمَن يَعْشُ}: وَمَنْ يُصَدَّ وَمَنْ يُعْرِضْ؛ يُقَيِّضْ لَهُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- {شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}.

*مِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ: أَنَّهُ يَحْمِلُ الْأَوْزَارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحَمِّلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْزَارًا: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ ۖ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه: ١٠٠ ١٠١].

الْأَوْزَارُ: الذُّنُوبُ وَالْخَطَايَا الْكَبِيرَةُ.

*مِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ: أَنَّ اللهَ أَمَرَ رَسُولَهُ ﷺ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْمُعْرِضِينَ؛ فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُجَانِبَهُمْ، وَعَلَيْهِ أَلَّا يُخَالِطَهُمْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُحَادَّهُمْ، وَأَنْ يُبْغِضَهُمْ فِي اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ} [النجم: ٢٩ ٣٠].

{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: ٢٨].

 مِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ: أَنَّ اللهَ يُبَدِّلُ أَحْوَالَ الْمُعْرِضِينَ مِنَ الرَّخَاءِ وَالنِّعْمَةِ إِلَى الْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ، قَالَ رَبُّنَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}  [سبأ: ١٥ ١٧].

*مِنْ نَتَائِجِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ: أَنَّ اللهَ يَسْخَطُ عَلَى الْمُعْرِضِينَ، وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ؛ فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللهِ أَعْرَضَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عُقَيْلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ -وَالنَّاسُ مَعَهُ- إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ.

قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ، فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ)).

كَانَ فِي آخِرِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ جُزْءٌ غَيْرُ مَسْقُوفٍ، وَكَانَ كَالْمَمَرِّ، رُبَّمَا مَرَّ مِنْهُ الْمَرْءُ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ جَالِسًا، وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُعَلِّمُهُمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ بِهِ، فَمَرَّ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَمَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ فَوَجَدَ فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ، فَجَلَسَ فِيهَا.

وَأَمَّا الْآخَرُ؛ فَلَمْ يَجِدْ فُرْجَةً، فَجَلَسَ خَلْفَهُ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَذَهَبَ مُوَلِّيًا .

وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: ((أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ -تَرَكَ مَجْلِسَ الْعِلْمِ، وَتَرَكَ التَّذْكِيرَ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَمَرَّ مُعْرِضًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ- فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ))، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مُعْرِضٍ عَنِ الْحَقِّ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعْرِضُ عَنْهُ، وَسَاءَ هَؤُلَاءِ مُنْقَلَبًا، نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الْحَقِّ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ، وَالثَّبَاتَ عَلَيْهِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَ اللهِ الْكَرِيمَ.

الْهِدَايَةُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ، وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ الْمَرْءُ فِي دُعَاءِ رَبِّهِ أَنْ يُؤْتِيَهُ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا هُدِيَ إِلَى الْحَقِّ فَقَدْ جَانَبَ الْبَاطِلَ، فَكَانَ حِينَئِذٍ- عَلَى الْحَقِّ الْحَقِيقِ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَيَكُونُ -حِينَئِذٍ- مُحَقِّقًا لِلْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

الْهِدَايَةُ إِلَى الْحَقِّ مِنَّةٌ مِنَ الْحَقِّ -جَلَّ وَعَلَا-، مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: ٣٥ ٣٦].

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: ٢١٣].

أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟)).

قَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكِ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).

هَذَا دُعَاءُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي هَدَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى الْحَقِّ، وَاخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ، وَاخْتَصَّهُ، وَجَعَلَهُ خَلِيلًا، وَأَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ، وَثَبَّتَهُ عَلَى الْحَقِّ، وَقَبَضَهُ عَلَى الْحَقِّ ﷺ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ: ((اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).

فَلْيَكُنْ هَذَا الدُّعَاءُ دَيْدَنَكَ، وَلْتُدَنْدِنْ حَوْلَهُ دَائِمًا وَأَبَدًا، وَلْتَدْعُ رَبَّكَ لِهِدَايَتِكَ إِلَى مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ؛ إِنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، ((اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).

ثَبِّتْنِي عَلَى الْحَقِّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: ٦] أَيْ: ثَبِّتْنَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حُبًّا وَقَبُولًا لِلْحَقِّ؛ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى أَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِذَلِكَ وَهَدَى قَلْبَهُ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الْحَقِّ، وَإِذَا هَدَاهُ إِلَى الْحَقِّ أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا هَدَاهُ إِلَى الْحَقِّ وَثَبَّتَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبِضَهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَحْشُرَهُ فِي زُمْرَةِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ؛ فَيَدْخُلُ النَّارَ)). نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ.

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَوَضَّحَهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : ((وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ)): وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ وَالرُّوحَ إِذَا كَانَا عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ مُذْعِنَيْنِ لِلْحَقِّ، طَالِبَيْنِ لِلْحَقِّ، مُنْقَادَيْنِ لِلْحَقِّ.

((تَأْثِيرُ الْحَقِّ فِي الْقُلُوبِ وَثَمَرَاتُ اتِّبَاعِهِ))

عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحْسِنَ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا تُحْسِنُ بِهِ النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ -وَهُوَ مَا تَسْتَقِيمُ بِهِ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، يَسْتَقِيمُ الْقَلْبُ بِهِ، وَتَصْلُحُ الرُّوحُ عَلَيْهِ- مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ: مَا هُوَ مِنْ عَوْدَةِ النَّفْسِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا تَبَيَّنَ؛ لِأَنَّ الْعِنَادَ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ-.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُ ﷺ يَكْذِبُ عَلَى اللهِ، وَلَكِنْ مَا كَانُوا مُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].

فَكَانُوا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ، وَيَعْلَمُونَ أَمَانَتَهُ، وَيُقِرُّونَ بِذَلِكَ؛ وَلَكِنْ حَمَلَهُمُ الْحَسَدُ وَالْحِقْدُ وَالْعِنَادُ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِاللَّفْظِ دُونَ التَّكْذِيبِ بِالْقَلْبِ.

 كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ: ((نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ تَسَابَقْنَا فِي الْمَعْرُوفِ؛ أَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، وَتَصَدَّقُوا فَتَصَدَّقْنَا، وَبَذَلُوا وَبَذَلْنَا؛ حَتَّى إِذَا كُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، وَتَحَاذَتِ الرُّكَبُ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟!!)).

وَهُوَ يَقُولُ: ذَلِكَ رَجُلٌ -يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ-: ((ذَلِكَ رَجُلٌ كُنَّا نَدْعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ يَعْنِي: مِنَ الْوَحْيِ، وَمِنَ ادِّعَاءِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُوَ رَسُولُهُ حَقًّا وَصِدْقًا- ذَلِكَ رَجُلٌ كُنَّا نَدْعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، وَمَا جَرَّبْنَا عَلَيْهِ كَذِبًا قَطُّ، وَمَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى رَبِّ النَّاسِ)).

فَهَذَا دَلِيلٌ يَحْمِلُ الْعَقْلَ عَلَى قَبُولِهِ؛ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لَا تَخْضَعُ دَائِمًا لِمُعْطَيَاتِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ تَرُدُّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ، وَتُعَانِدُ حَاسِدَةً وَحَاقِدَةً كُلَّ دَاعٍ إِلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ النَّاسَ بِأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْأَخْذِ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَنْظُرُوا فِي أَحْوَالِهِمْ.

كَانَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ ﷺ يَقُولُ: ((قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ تُفْلِحُوا)).

وَلِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِهِمْ، وَهُوَ الْخَبِيرُ بِأَحْوَالِهِمْ وَتَقَلُّبَاتِ قُلُوبِهِمْ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ.. لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ خَالِقُهُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِهِمْ، وَهُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَمَا أَجَنَّتْ قُلُوبُهُمْ، وَمَا أَكَنَّتْ نُفُوسُهُمْ؛ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى أَمْرٍ سَوَاءٍ {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46].

 لَا تُفَكِّرُوا جَمَاعَةً، لَا تُفَكِّرُوا مَعًا؛ فَإِنَّ فَلْسَفَةَ الْقَطِيعِ -حِينَئِذٍ- تَشْمَلُكُمْ، لَا تَكُونُوا إِمَّعَاتٍ، وَلَكِنْ لِيُحَرِّرْ كُلٌّ مِنْكُمْ نَفْسَهُ مِنْ سُلْطَانِ حَسَدِهَا، وَمِنْ طُغْيَانِ بَغْيِهَا، وَمِمَّا أَكَنَّتْ مِنْ حِقْدِهَا، وَلْتَنْثُرُوا أَنْفُسَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُلْتَمِسِينَ الْوُصُولَ إِلَى الْحَقِّ وَحْدَهُ؛ فَالْحَقُّ قُوَّتُهُ جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ.

الْحَقُّ لَا يُقَاوَمُ.

الْحَقُّ غَالِبٌ، وَالْبَاطِلُ زَاهِقٌ وَزَهُوقٌ.

وَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَقَدْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.

وَنَبِيُّهُ حَقٌّ، وَكِتَابُهُ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ.

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحِبُّ الْحَقَّ، وَيَدْعُو إِلَى الْحَقِّ، وَكَذَلِكَ رَسُولُهُ ﷺ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ أَسْرِ التَّفْكِيرِ الْجَمَاعِيِّ .

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ}.

مُحَمَّدٌ ﷺ مَا بِهِ مِنْ جُنُونٍ، وَمَا بِهِ مِنْ كَذِبٍ وَلَا ادِّعَاءٍ.

لَوْ أَنَّ الْوَاحِدَ خَلَا بِنَفْسِهِ وَتَأَمَّلَ؛ لَعَلِمَ الْحَقَّ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ بَيْنَ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَضَلُّوهُ، وَحَرَفُوهُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ عَظَمَةَ تَأْثِيرِ الْحَقِّ عَلَى الْقُلُوبِ، وَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ النُّفُوسَ السَّوِيَّةَ سَرْعَانَ مَا تَدْفَعُ الدَّمْعَ مِدْرَارًا مِنَ الْأَعْيُنِ عِنْدَ سَمَاعِ الْحَقِّ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 83-85].

الْحَقُّ إِذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ أَسَالَ الْعُيُونَ دُمُوعًا؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ الْحَقَّ، وَلَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَبْطَلِ الْمُبْطِلِينَ، وَإِنَّمَا يُمَارِي بِالْبَاطِلِ، وَيَجْعَلُ لِنَفْسِهِ مَسَارِبَ فِي النِّفَاقِ تَحْمِلُ عَلَيْهَا عَوَامِلُ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَّكِئَ عَلَى دَوَافِعَ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ، وَلَيْسَتْ بِقَائِمَةٍ فِي النَّفْسِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَّكِئُ عَلَيْهَا النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ عِنْدَ مُوَاجَهَةِ الْحَقِّ؛ حَتَّى لَا تَنْكَسِرَ النَّفْسُ أَمَامَ نَفْسِهَا.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران: 199].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 52-54].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85].

جَزَاهُمُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَتَصْدِيقِهِمْ، وَاعْتِرَافِهِمْ بِالْحَقِّ {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يُحَوَّلُونَ وَلَا يَزُولُونَ {وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ: فِي اتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ، وَانْقِيَادِهِمْ لَهُ حَيْثُ كَانَ وَأَيْنَ كَانَ، وَمَعْنًى كَانَ، لَا يَنْظُرُونَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ، وَلَا تَقُومُ الْعَوَامِلُ النَّفْسِيَّةُ حَاجِزًا دُونَ قَبُولِهِ، بَلْ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَبْغَضِ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُصَدِّقًا عَلَى مَا قَالَ إِبْلِيسُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ))، فَوَصَفَهُ بِمَا هُوَ فِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ الصُّرَاحِ أَنْ يَقْبَلَ مَا قَالَ لَمَّا وَافَقَ الْحَقَّ.

وَنَحْنُ نَقْبَلُ ذَلِكَ لَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَلَا مِنْ إِبْلِيسَ، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَفْتُونِينَ، يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَقَّ نَقْبَلُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ!!

لَا! وَإِنَّمَا قَبِلْنَاهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ اعْتَمَدَهُ، فَقَبِلْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَوْ لَا أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((صَدَقَكَ)) مَا قَبِلْنَاهُ، وَإِنَّمَا نَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اعْتَمَدَهُ، فَنَحْنُ لَا نَتَعَلَّمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا نَتَعَلَّمُ مِنْ نَبِيِّ رَبِّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

إِنَّ قَضِيَّةَ قَبُولِ الْحَقِّ.. الْقَضِيَّةَ الْمِحْوَرِيَّةَ هِيَ قَضِيَّةُ الْقَضَايَا فِي حَيَاةِ الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ فِي حَيَاةِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْبَشَرِيِّ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَضِلُّ يَضِلُّ بِعِلْمٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَؤُزُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَدْفَعُهُ أَنْ يَرُدَّ الْحَقَّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِعَوَامِلِ السُّوءِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ -حِينَئِذٍ- مِنَ الْخَاسِرِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِمَنْ قَبِلُوا الْحَقَّ وَبَادَرُوا إِلَيْهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ؛ قَالَ: {وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}.

فَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ مَنْ رَدَّ الْحَقَّ لَيْسَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ؛ فَلَا يُحِبُّهُ اللهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَالَ: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وَمَفْهُومُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْسِنًا.

إِنَّ الْحَقَّ يَصْدَعُ الْقُلُوبَ إِذَا كَانَتِ الْقُلُوبُ قَدْ خَلَّتْ سَبِيلَ الْحَقِّ مَسْلُوكًا، أَمَّا إِذَا وَضَعَتْ تِلْكَ الصَّوَارِفَ الَّتِي تَصْرِفُ الْمَرْءَ عَنِ الْحَقِّ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا أَبَدًا؛ لِذَا تَجِدُ قُلُوبَ الْعُتَاةِ مِنْ يَهُودَ لَا يَنْفُذُ الْحَقُّ إِلَيْهَا أَبَدًا، قُلُوبُهُمْ غُلْفٌ -جَمْعُ أَغْلَفَ، وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي غُلَافٍ-، فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ الْحَقُّ أَبَدًا.

خَلِّ بَيْنَ الْحَقِّ وَقَلْبِكَ؛ حَتَّى يَرْحَمَكَ اللهُ!

خَلِّ بَيْنَ الْحَقِّ وَقَلْبِكَ، وَلَا تَعْرِضِ الْأَمْرَ عَلَى هَوَاكَ، وَإِنَّمَا اعْرِضِ الْأَمْرَ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ؛ لِأَنَّ مِمَّا يَصْرِفُكَ عَنِ الْحَقِّ: أَنْ تَعْتَقِدَ -وَأَنْتَ مُبْطِلٌ- أَنَّكَ عَلَى الْحَقِّ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّوَارِفِ عَنِ الْحَقِّ؛ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمُبْطِلُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، يَكُونُ مُبْطِلًا لَا حَقَّ عِنْدَهُ، وَهُوَ مُعْتَقِدٌ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْحَقِّ وَهُوَ بِهِ حَقِيقٌ، وَلَا حَقَّ عِنْدَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْبَاطِلُ كُلُّهُ، وَهُوَ مِنْ أَبْطَلِ الْمُبْطِلِينَ.

فَلْنَتَأَمَّلْ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ فَإِنَّهُ عَزِيزٌ، بِهِ سَعَادَتُكَ فِي الدُّنْيَا، وَنَجَاتُكَ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَرَفَ مَنْ صُرِفَ عَنِ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ اتِّبَاعُهُمْ لِأَهْوَائِهِمْ، وَقِيَامُهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَرَدُّهُمُ الْحَقَّ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، يَرُدُّ الْحَقَّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بَطَرُ الْحَقِّ.

بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ؛ هَذَا هُوَ الْكِبْرُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ.

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنًا)).

قَالَ: ((لَيْسَ ذَاكَ؛ إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).

هَذَا هُوَ الْكِبْرُ الَّذِي لَا يُدْخِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْهُ، مِنْ بَطَرِ الْحَقِّ، أَيْ: دَفْعِهِ؛ اسْتِصْغَارًا لِشَأْنِ مَنْ أَتَى بِهِ، أَوْ لِصَارِفٍ يَصْرِفُهُ عَنِ الْحَقِّ، يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَيَرُدُّهُ، وَهُوَ الْحَقُّ الْحَقِيقُ بِالِاتِّبَاعِ، وَدُونَهُ هُوَ الْبَاطِلُ الْجَدِيرُ بِالِاجْتِنَابِ، وَلَكِنْ يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ حِقْدٌ فِي قَلْبِهِ، أَوْ حَسَدٌ فِي نَفْسِهِ، أَوِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ مُحِقٌّ وَهُوَ مُبْطِلٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْقَوَاطِعِ دُونَ الْحَقِّ.

حَرَّمَ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ.

((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ))؛ دَفْعُهُ وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ أَتَى بِهِ اسْتِصْغَارًا لِشَأْنِهِ أَوِ اسْتِقْلَالًا لِأَمْرِهِ، أَوْ نَظَرًا إِلَى صِغَرِ سِنِّهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الصَّارِفَةِ.

وَغَمَطُهُ ازْدِرَاءُ النَّاسِ، احْتِقَارُهُ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ؛ احْتِقَارًا وَاسْتِهْجَانًا.

((ضَرُورَةُ مَعْرِفَةِ الْحُقُوقِ وَالْوَفَاءِ بِهَا))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الْوَعْيِ بِأَهَمِّيَّةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَإِحْقَاقِهِ، وَالتَّوَاصِي بِهِ، وَالْوَفَاءِ بِحَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ، وَالْأُمَّةِ وَالْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْوَفَاءِ بِحَقِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَبْنَاءِ، وَالْجِيرَانِ، وَسَائِرِ النَّاسِ، اسْتِعْدَادًا لِيَوْمِ الْحَقِّ، يَوْمِ لِقَاءِ الْحَقِّ -سُبْحَانَهُ-.

إِنَّ الْحَقَّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ!

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقَوَاطِعَ الصَّارِفَةَ عَنْ وُصُولِهِ إِلَى الْحَقِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَنْ يُنَحِّيَ حَظَّ النَّفْسِ جَانِبًا، لَيْسَ لَنَا مِنْ مَتْبُوعٍ سِوَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَالْأَمْرُ أَمْرُهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ، وَالْوَحْيُ مَا جَاءَ عَلَى لِسَانِهِ ﷺ.

لَا نُقَدِّمُ لِأَحَدٍ قَوْلًا عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا عِلْمَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَصْحَابُهُ، فَإِنْ لَمْ نَأْخُذْ بِمَا جَاؤُوا بِهِ وَأَدَّوْهُ إِلَى الْأُمَّةِ؛ فَقَدْ ضَلَلْنَا ضَلَالًا مُبِينًا -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْنَا، وَفِي الْوَفَاءِ وَالتَّوَاصِي بِهَا، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

((أَقْسَمَ -تَعَالَى- بِالْعَصْرِ الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.. مَحَلُّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ خَاسِرٌ، وَالْخَاسِرُ ضِدُّ الرَّابِحِ.

وَالْخَسَارُ مَرَاتِبُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ:

قَدْ يَكُونُ خَسَارًا مُطْلَقًا؛ كَحَالِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَفَاتَهُ النَّعِيمُ، وَاسْتَحَقَّ الْجَحِيمَ.

وَقَدْ يَكُونُ خَاسِرًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا عَمَّمَ اللَّهُ الْخَسَارَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ؛ إِلَّا مَنِ اتَّصَفَ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ:

الْإِيمَانُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ بِدُونِ الْعِلْمِ، فَهُوَ فَرْعٌ عَنْهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.

وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا شَامِلٌ لِأَفْعَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا، الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.

وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، أَيْ: يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ.

وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَعَلَى أَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ.

فَبِالْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يُكَمِّلُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، وَبِالْأَمْرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يُكَمِّلُ غَيْرَهُ، وَبِتَكْمِيلِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْ سَلِمَ مِنَ الْخَسَارِ، وَفَازَ بِالرِّبْحِ الْعَظِيمِ)).

 نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُرِيَنَا الْحَقَّ حَقًّا وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَنْ يُرِيَنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَيَرْزُقَنَا اجْتِنَابَهُ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ﷺ.

المصدر:الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الطريق إلى محبة الله عز وجل
  الْآدَابُ وَالْحُقُوقُ الْعَامَّةُ لِلْمُجْتَمَعِ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّهِ وَبِنَاءِ حَضَارَتِهِ
  حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ
  إِيمَانُ وَوَحْدَةُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  الْإِسْلَامُ عَمَلٌ وَسُلُوكٌ..نَمَاذِجُ مِنْ حَيَاةِ التَّابِعِينَ
  بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ
  عِنَايَةُ الْإِسْلَامِ بِالنَّشْءِ
  بيان للمصريين عامة وللدعاة خاصة
  الْأَمَلُ حَيَاةٌ
  حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ أُنْمُوذَجٌ تَطْبِيقِيٌّ لِصَحِيحِ الْإِسْلَامِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان