((نَبْذُ الْإِسْلَامِ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ وَالْكَرَاهِيَةِ))
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ-صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَكَ كَمَا تَكُونُ أَنْتَ لَهُ وَلِعِبَادِهِ))
فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ، وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَإِنَّما يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، وَهُوَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ مَنْ يَسْتُرُ عَلَى عِبَادِهِ، وَعَفُوٌّ يُحِبُّ مَنْ يَعْفُو عَنْهُمْ، وَغَفُورٌ يُحِبُّ مِنْ يَغْفِرُ لَهُمْ، وَلَطِيفٌ يُحِبُّ اللُّطْفَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيُبْغِضُ الْفَظَّ الْغَلِيظَ الْقَاسِيَ، الْجَعْظَرِيَّ الْجَوَّاظَ.
وَرَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَحَلِيمٌ يُحِبُّ الْحِلْمَ، وَبَرٌّ يُحِبُّ الْبِرَّ وَأَهْلَهُ، وَعَدْلٌ يُحِبُّ الْعَدْلَ، وَقَابِلٌ لِلْمَعَاذِيرِ يُحِبُّ مَنْ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَ عِبَادِهِ، وَيُجَازِي عَبْدَهُ بِحَسَبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِيهِ وُجُودًا وَعَدَمًا.
فَمَنْ عَفَا عَفَا عَنْهُ، وَمَنْ غَفَرَ غَفَرَ لَهُ، وَمَنْ سَامَحَ سَامَحَهُ، وَمَنْ حَاقَقَ حَاقَقَهُ، وَمَنْ رَفَقَ بِعِبَادِهِ رَفَقَ بِهِ، وَمَنْ رَحِمَ خَلْقَهُ رَحِمَهُ، وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَمَنْ جَادَ عَلَيْهِمْ جَادَ عَلَيْهِ، وَمَنْ نَفَعَهُمْ نَفَعَهُ، وَمَنْ سَتَرَهُمْ سَتَرَهُ، وَمَنْ صَفَحَ عَنْهُمْ صَفَحَ عَنْهُ.
وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَتَهُمْ تَتَبَّعَ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ هَتَكَهُمْ هَتَكَهُ وَفَضَحَهُ، وَمَنْ مَنَعَهُمْ خَيْرَهُ مَنَعَهُ خَيْرَهُ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللهُ بِهِ، وَمَنْ مَكَرَ مَكَرَ بِهِ، وَمَنْ خَادَعَ خَادَعَهُ، وَمَنْ عَامَلَ خَلْقَهُ بِصِفَةٍ عَامَلَهُ اللهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الصِّفَةِ عَيْنِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَاللهُ تَعَالَى لِعَبْدِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ لِخَلْقِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ تَعَالَى حِسَابَهُ، وَمَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ فَضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)).
كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكُنْ كَيْفَ شِئْتَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَكَ كَمَا تَكُونُ أَنْتَ لَهُ وَلِعِبَادِهِ)).
((دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ أَمَرَ بِالرِّفْقِ وَجَعَلَ الْخَيْرَ فِيهِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْخَيْرَ فِي الرِّفقِ كَمَا قَالَ ﷺ: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
وَمَفْهُومُ ذَلِكَ أَن الشَّرَّ فِي الْعُنْفِ وَهُوَ -فَضْلًا عَمَّا يَجُرُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ- يُدَمِّرُ صِحَّةَ الْإِنْسَانِ، وَيُبَدِّدُ طَاقَةَ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، وَيُشَوِّشُ عَلَيْهِ فِكْرَهُ، وَيَقْطَعُ مَوْصُولَ صِلَتِهِ بِالْخَلْقِ مِنْ حَوْلِهِ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ، وَأَمَّا الرِّفْقُ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْعُنْفِ وَالشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ، وَصَاحِبُهَا مَحْرُومٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَضَرُورَةُ التَّحَلِّي بِالرِّفْقِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ؛ فَإِنَّهُمَا يُزَيِّنَانِ الْمَرْءَ وَيُجَمِّلَانِهِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا، فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ.
قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ».
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟!
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
«رَهْطٌ»: الرَّهْطُ: مَا دُونَ الْعَشْرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، لَا يَكُونُ فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقِيلَ: إِلَى الْأَرْبَعِينَ رَجُلًا.
وَ«السَّامُ»: الْمَوْتُ.
قَوْلُ عَائِشَةَ: «فَفَهِمْتُهَا»؛ أَيْ: فَهِمْتُ أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. وَلَمْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.
قَالَتْ: «عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ»، «اللَّعْنَةُ»: الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى.
«مَهْلًا يَا عَائِشَةُ»، «مَهْلًا»: مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيِ: ارْفُقِي رِفْقًا.
وَ«الْمَهْلُ»: التُّؤَدَةُ وَالرِّفْقُ.
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ»؛ أَيْ: يُحِبُّ لِينَ الْجَانِبِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَيُحِبُّ الْأَخْذَ بِالْأَسْهَلِ مَا لَمْ يُخَالِفِ الشَّرْعَ.
فِي حَدِيثِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ».
أَيْ: يَتَأَتَّى مِنَ الرِّفْقِ مَا لَا يَتَأَتَّى مَعَ نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ.
قَالَ ﷺ: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ».
أَيْ: يُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ دُعَائِي بِالْمَوْتِ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ بِهِ، وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ الِانْتِصَارُ بِرِفْقٍ دُونَ عُنْفٍ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: النَّهْيُ عَنِ الْعُنْفِ وَالْفُحْشِ مَعَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ عَنِيفًا فَاحِشًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، بَيَانُ أَنَّ الِانْتِصَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِرِفْقٍ وَحِكْمَةٍ، وَحُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَدَبِهِ، وَفَضْلُ الرِّفْقِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَذَمُّ الْعُنْفِ، وَرَدُّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَنَّهُ يَكُونُ بِقَوْلِ: «وَعَلَيْكُمْ»، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَوِّدَ لِسَانَهُ عَلَى الْأَدَبِ وَأَلَّا يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالسَّبِّ حَتَّى لَا يُدْمِنَهُ.
وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ يُحْرَمُ الرِّفْقَ يُحْرَمُ الْخَيْرَ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
«الرِّفْقُ»: لِينُ الْجَانِبِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَهُوَ اللُّطْفُ، وَهُوَ خِلَافُ الْعُنْفِ.
«مَنْ يُحْرَمُ»: هَاهُنَا مِنَ الْمَنْعِ وَالْحِرْمَانِ.
«يُحْرَمُ الْخَيْرَ»؛ أَيْ: يُفْضِى بِهِ إِلَى أَنْ يُحْرَمَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أَصْحَابِهِ فِيمَا لَوْ تَعَامَلَ مَعَهُمْ بِالْغِلْظَةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ انْفِضَاضِ أَصْحَابِهِ، فَكَيْفَ لَوْ تَعَامَلَ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ دُونَهُ مَعَ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ.
وَأَنْتَ تَرَى -حَفِظَكَ اللهُ- بُعْدَ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ.
فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ!
وَاللِّينَ اللِّينَ! إِلَّا فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ، فَيَتَوَجَّبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشِّدَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا.
فَالرِّفْقَ الرِّفْقَ.. وَاللِّينَ اللِّينَ؛ حَتَّى تُبَلِّغَ دِينَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
عباد الله! إِنَّ الرِّفْقَ سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْمَلَ حَيَاةَ الْمُسْلِمِ، فَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
((نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الْعُنْفِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَذِيَّتِهِمْ))
لَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كَثِيرٌ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُحَذِّرُ مِنْ أَذِيِّةِ المُسْلِمِينَ، وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ، وَتَعْيِيرِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَتَبَّعُهُمْ؛ لِيُرِيقَ دِمَاءَهُمْ؟!
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المِنْبَرَ؛ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ: لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحُهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ».
قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ، أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ».
وَهَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ». أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَفي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «المُسْلمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ».
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الإِشَارَةِ بِالسِّلَاحِ، أَوِ الحَدِيدِ إِلَى المُسْلِمِ، جَادًّا، أَوْ مَازِحًا، أَوْ مُمَثِّلًا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ فَاعِلَهُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ, وَأَنَّ ذَلِكَ مَلْعُونٌ إِذَا فَعَلَ, فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا؟!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ-عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ ﷺ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».
فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لَا عَلَى سَبِيلِ الجِدِّ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ المُزَاحِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَلْعُونًا إِذَا أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِالحَدِيدَةِ؛ أي: بِالسِّلَاحِ، وَلَوْ كَانَ مَازِحًا, وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دُخُولِ المَسَاجِدِ، وَالأَسْوَاقِ، وَأَمَاكِنِ تَجَمُّعِ النَّاسِ بِالأَسْلِحَةِ؛ إِذَا كَانَ فِي حَمْلِهَا ضَرَرٌ عَلَى المُسْلِمِينَ, فَكَيْفَ بِمَنْ يُفَخِّخُ نَفْسَهُ، أَوْ يَمْلَأُ سَيَّارَةً بِالمُتَفَجِّرَاتِ، أَوْ بِأَنَابِيبِ الغَازِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى سُوقٍ أَوْ مَجْمَعٍ مِنْ تِلْكَ المَجَامِعِ الَّتِي فِيهَا المُسْلِمُونَ؛ لِكَيْ يَنْسِفَهَا تَحْتَ شِعَارِ الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَاللهُ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الأَفْعَالِ، وَدِينُهُ وَرَسُولُهُ؟!
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ: «مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ قَالَ: فَلْيَأْخُذْ، أَوْ: لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيءٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي المَسْجِدِ، وَمَعَهُ سِهَامٌ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ص: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي المَسْجِدِ، قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا؛ فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا؛ كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا».
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِخَافَةِ المُسْلِمِينَ، وَعَنْ إِرْهَابِهِمْ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، مَنْ أَخَافَهَا، فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ ﷺ ».
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَنَامَ رَجُلٌ مِنهُمْ؛ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ -مَعَ النَّائِمِ- فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».
«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِماً», فَكَيْفَ بِقَتْلِهِ؟!
تَأَمَّلْ فِي دِينِكَ، وَدَعْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الحَمْقَى الَّذِينَ يُشَوِّهُونَهُ، الَّذِينَ يُنَفِّرُونَ النَّاسَ -حَتَّى المُسْلِمِينَ- مِنْ دِينِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَمَا أَكْثَرَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَارُوا يَنْظُرُونَ بِعَيْنِ الرِّيبَةِ إِلَى دِينِهِمُ الحَنِيفِ!
بَلْ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ المُسْلِمِينَ، يَقِفُونَ مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ الفَاجِرَةِ إِلَى القَتْلِ، وَالذَّبْحِ وَالإِبَادَةِ، وَتِلْكَ الدَّعْوَاتِ الفَاجِرَةِ إِلَى الِانْحِلَالِ وَالِانْعِتَاقِ مِنْ كُلِّ دِينٍ وَمِلَّةٍ.
وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَبَدًا، وَلَكِنْ هُوَ فِعْلُ طَائِفَةٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى دِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ.
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ مَحْمِيَّةٌ مَحْرُوسَةٌ, وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيهَا مَنْ بِأَقْطَارِهَا.
وَاعْلَمُوا أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ، وَرَحْمَةٌ فِي الحَرْبِ.
((الْإِسْلَامُ العَظِيمَ لَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى أَحَدٍ)):
إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ لَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ قَطُّ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ فِي مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يُوَفَّ حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْعَثُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهَا؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي خِطَابِهِ، يَبْعَثُ اللهُ تَعَالَى الخَلَائِقَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَقْضِي رَبُّنَا بَيْنَهَا بِالحَقِّ وَالعَدْلِ وَالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ.
حَتَّى لَيَفْصِلُ رَبُّكَ بَيْنَ الشَّاةِ الْجَلْحَاءِ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا، وَالشَّاةِ القَرْنَاءِ الَّتِي لَهَا قَرْنٌ، فَنَطَحَتْ بِهِ ضَرْبًا الْجَلْحَاءَ، وَلَمْ يُقْتَدْ وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهَا هَاهُنَا، يَقْتَصُّ اللهُ تَعَالَى لَهَا، يَقْتَصُّ مِنَ الْقَرْنَاءِ لِلْجَلْحَاءِ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي «الصَّحِيحِ»؛ فيُنْشِئُ لِلْجَلْحَاءِ قَرْنَيْنِ، فَتَضْرِبُ الْأُخْرَى كَمَا ضَرَبَتْهَا، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا.
إِنَّهُ العَدْلُ الَّذِي لَا عَدْلَ فَوْقَهُ.
إِنَّهُ الحَقُّ الَّذِي لَا حَقَّ بَعْدَهُ.
وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ دِينًا أَهَانَهُ أَهْلُهُ، وَظَلَمَهُ أَبْنَاؤُهُ كَالإِسْلَامِ العَظِيمِ، فَمَا أَكْثَرَ مَا شَوَّهَهُ بَعْضُ مَنِ اِنْتَمَى إِلَيْهِ.
((تَحْرِيمُ الْإِسْلَامِ للتَّفْجِيرُ وَالتَّدْمِيرُ، وَالقَتْلُ وَالتَّخْرِيب))
إِنَّ الْأَعْمَالَ الْإِجْرَامِيَّةَ -مِنَ التَّفْجِيرَاتِ وَالِاعْتَدَاءِ عَلَى الْحُرُمَاتِ- تَتَضَمَّنُ أَنواعًا مِنَ المُحَرَّمَاتِ فِي الإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ:
مِنْ غَدْرٍ وَخِيَانةٍ, وَبَغْيٍ وَعُدْوَانٍ, وَإِجْرَامٍ آثِمٍ, وَتَرْوِيعٍ لِلمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِم، وَكُلُّ هَذِهِ قَبَائِحُ مُنْكَرَةٌ؛ يَأْبَاهَا وَيُبْغِضُهَا اللَّهُ، وَيَأْبَاهَا وَيُبْغِضُهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَيَأْبَاهَا وَيُبْغِضُهَا المُؤْمِنُونَ.
فَالتَّخْرِيبُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ الإِسْلَامُ الحَنِيفُ، يَجُرُّ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ شَرًّا كَثِيرًا؛ حَيْثُ إِنَّ الكُفَّارَ يَأْخُذُونَهُ حُجَّةً لِلِانْقِضَاضِ عَلَى المُسْلِمِينَ وَتَدْمِيرِ بِلَادِهِمْ، وَتَشْوِيهِ عَقِيدَتِهِمْ, وَهَذَا الَّذِي اتَّخَذَهُ الكُفَّارُ سَبَبًا لِهَدْمِ الإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَ الإِسْلَامَ بِأَنَّهُ دِينُ إِرْهَابٍ وَقَتْلٍ!!
التَّفْجِيرُ وَالتَّدْمِيرُ، وَالقَتْلُ وَالتَّخْرِيبُ, وَالتَّفْزِيعُ وَالتَّرْوِيعُ؛ فَهَذَا مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ الإِسْلَامُ؛ لِأَنَّهُ يُسَبِّبُ شَرًّا عَلَى المُسْلِمِينَ قَبْلَ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ بِدُونِ فَائِدَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الحَوَادِثَ -مِنَ التَّفْجِيرَاتِ وَالْأَعْمَالِ التَّخْرِيبِيَّةِ- حَوَادِثُ فِتَنٍ، مُنذِرَةٌ بِشَرٍّ كَبِيرٍ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الإِجْرَامِ المَقِيتِ الَّذِي لَا هَدَفَ لَهُ فِيمَا يَبْدُو إِلَّا أَنْ يُرْبِكَ السُّلُطَاتِ, وَأَنْ يَهْدِمَ الدَّوْلَةَ دُونَ تَفْسِيرٍ لِمَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الأَذَى.
وَهُوَ بِهَذَا يُعَدُّ مِنْ أَعْمَالِ التَّخْرِيبِ، وَمِنَ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ وَالعُدْوَانِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- حَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الأَنْفُسِ المَعْصُومَةِ وَالأَمْوَالِ المُحْتَرَمَةِ، وَحَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا، وَنَهَاهُمْ تَعَالَى أَنْ يَتَظَالَمُوا.
وَمِنَ الوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الأَمْنَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ، كَمَا أَنَّ فَقْدَهُ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ العَذَابِ، فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَلَمْ تَشْكُرِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ أَذَاقَهَا اللهُ لِباسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النَّحْل: 112].
((احْتِرَامُ دِمَاءِ النَّاسِ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَةِ الإِسْلَامِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اِحْتِرَامَ دِمَاءِ النَّاسِ، وَاِحْتِرَامَ أَمْوَالِهِمْ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ شَرِيعَةُ الإِسْلَامِ، وَحُرْمَةُ الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ شَرَائِعُ اللهِ كُلُّهَا، وَأَكْمَلُهَا شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ القَتْلِ، وَبَيَانُ خَطَرِهِ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ:
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وَقَالَ ﷺ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ -أَيْ: نَصِيبٌ- مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ».
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ رَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِلخَضِرِ:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكَهْف: 74].
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [القصص: 15- 16].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
فَالْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهَمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ, لَا تَحِلُّ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْ اللهِ ورَسُولِهِ.
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ, كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ, دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا؛ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)).
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟
قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)).
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)).
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا؛ سَفْكُ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغِيْرِ حِلِّهِ)).
وَالْوَرْطَاتُ: جَمْعُ وَرْطَةٍ، وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي قَلَّ مَا يَنْجُو مِنْهُ أَوْ هِيَ الْهَلَاكُ، ((إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا -أَيْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا- سَفْكُ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ -أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ يُبِيحُ الْقَتْلَ-)).
فَهَذَا كُلُّهُ تَشْدِيدٌ فِي الدِّمَاءِ وَبَيَانٌ عَظِيمٌ لِحُرْمَتِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
((حُرْمَةُ قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))
إِنَّ النَّفْسَ الْمَعْصُومَةَ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ أَمَانٌ؛ كَمَا قَالَ تعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
وَقالَ -سُبْحَانَهُ- في حَقِّ غَيْرِ المُسْلِمِ فِي حُكْمِ قَتْلِهِ خَطَأً لَا عَمْدًا: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
فَإِذَا كَانَ غَيْرُ المُسْلِمِ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ؛ إِذَا قُتِلَ خَطَأً؛ فِيهِ الدِّيَةُ وَالكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!
إِنَّ الجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعظَمَ، وَإِنَّ الإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ، وَقَد صَحَّ عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».
فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى؛ فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائرِ المُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ القَاتِلِ الجَنَّةَ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذْلَان-.
((نَبْذُ وَهَدْمُ الْإِسْلَامِ لِلْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ))
*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- كَرَّمَ بَنِي آدَمَ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا.
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
وَنُقْسِمُ مُؤَكِّدِينَ أَنَّنَا كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ بِالْعَقْلِ، وَالنُّطْقِ، وَالتَّمْيِيزِ، وَاعْتِدَالِ الْقَامَةِ، وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَبِتَسْخِيرِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَحَمْلَنَاهُمْ فِي الْبَرِّ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْمَرَاكِبِ الَّتِي هَدْيَنَاهُمْ إِلَى صُنْعِهَا، وَحَمْلَنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَرَزْقَنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَذِيذِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ، وَمُمْتِعَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْحَوَاسِّ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ تَفْضِيلًا عَظِيمًا.
*اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ النَّاسَ جَمِيعًا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَجَعَلَ أَرْفَعَهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاهُمْ لَهُ:
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لحجرات: 13].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالْمَجْمُوعَةُ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ النَّاسِ أُخُوَّةٌ إِنْسَانِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَجَعَلْنَاكُمْ جُمُوعًا عَظِيمَةً وَقَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةً؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِلتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّعَالِي بِالْأَحْسَابِ، إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِظَوَاهِرِكُمْ، وَيَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ وَالْحُضُورِ بِبَوَاطِنِكُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارَكُمْ، فَاجْعَلُوا التَّقْوَى زَادَكُمْ إِلَى مَعَادِكُمْ.
((نَبْذُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ))
*هَدَمَ النَّبِيُّ ﷺ الْعَصَبِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَعُنْصُرِيَّةَ الْعِرْقِ وَاللَّوْنِ:
لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَتِهِ.
وَأَعْلَنَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
وَأَشْهَدَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ: ((اللهم هَلْ بَلَّغْتُ)).
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.
يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ السَّبَّاحَةَ إِلَى السَّمَاءِ وينكُتها إليهم: ((اللهم فَاشْهَدْ، اللهم فَاشْهَدْ، اللهم فَاشْهَدْ)).
فَبَلَّغَ النَّبِيُّ ﷺ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ.
وَأَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَصَارُوا عَابِدِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوَحِّدِينَ.
وَأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))-: ((أَيُّهَا النَّاسُ! كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَى دَعَائِمَ الدِّينِ، وَأَقَامَ أَسَاسَ الْمِلَّةِ الْمَتِينَ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَأِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، بَعْدَ أَنْ أَرْسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَالِمَ الْمِلَّةِ الْغَرَّاءِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَحَجَّةَ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).
*بَيَانُ النَّبِيِّ ﷺ لِعِظَمِ شَأْنِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ:
أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْظَمِ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، وَنَادَى النَّبِيُّ ﷺ النَّاسَ أَجْمَعِينَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ!))، فَتَوَجَّهَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْخِطَابِ إِلَى النَّاسِ، وَمَا كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ كَأَنَّمَا يُشِيرُ أَنَّهُ لَا فَلَاحَ لِلْبَشَرِيَّةِ وَلَا سَعَادَةَ لَهَا إِلَّا بِاتِّبَاعِ نَهْجِهِ ﷺ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، ((مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ)).
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ((أَنَّ الْمُسْلِمَ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ﷺ-)).
*تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنَ النَّبِيِّ الرَّشِيدِ ﷺ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ:
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ حَذَّرَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ((مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يُقَاتِلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، وَيُقْتَلُ لِلْعَصَبِيَّةِ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ)).
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَصَبِيَّةَ مُنْتِنَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))، عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ-، قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ لَعَّابًا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ -كَسَعَهُ: أَيْ ضَرَبَهُ عَلَى دُبُرِهِ أَوْ عَلَى عَجِيزَتِهِ بِيَدِهِ أَوْ بِرِجْلِهِ أَوْ بِعُرْضِ سَيْفِهِ-، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَى الْقَوْمُ؟
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ!
وَسَمِعَهَا النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: ((مَا بَالَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة؟))
فَلَمَّا أُخْبِرَ ﷺ، قَالَ: ((دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)).
حَوْلَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ -حَوْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ تَدَاعَى كَلَقَبَيْنِ- تَدَاعَى مَنْ تَدَاعَى عَصَبِيَّةً، فَرَفَضَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ مَدَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُهَاجِرِينَ فِي كِتَابِهِ، وَمَدَحَ الْأَنْصَارَ، وَمَدَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَنْصَارَ فِي صَحِيحِ سُنَّتِهِ، وَمَدَحَ الْمُهَاجِرِينَ.
وَلَكِنْ لَمَّا تَدَاعَوْا حَوْلَ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ عَصَبِيَّةً؛ غَضِبَ ﷺ، وَقَالَ: ((مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَكَفَى بِالْمُسْلِمِ إِثْمًا أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)).
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ لُحْمَةً وَسُدًى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ شِعَارُهُمْ الَّذِي يَتَعَصَّبُونَ حَوْلَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ.
*نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الْفَخْرِ بِالْأَنْسَابِ:
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَنَا ((أَنَّ أَقْوَامًا سَيَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ))، فَبَيَّنَ ﷺ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا ((هُوَ كَالْجُعَلِ يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِفِيهِ))، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْزِلَتَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ كَالْجُعَلِ؛ وَهُوَ الْجُعْرَانُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، ((يُدَهْدِهُ)): أَيْ يُدَحْرِجُ الْخُرْءَ -أَعَزَّكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- ((بِفِيهِ))؛ مِنْ وَضَاعَتِهِ وَحَقَارَتِهِ.
((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، وَإِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونَنَّ عِنْدَ اللهِ أَهْوَنَ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِفِيهِ)).
بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ خُطُورَةَ الْعَصَبِيَّةِ، وَخُطُورَةَ الِانْتِمَاءِ إِلَى الشِّعَارَاتِ الْحِزْبِيَّةِ، وَإِلَى الِانْتِمَاءَاتِ الضَّيِّقَةِ الرَّدِيَّةِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلَا تُكْنُوهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: ((فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوا)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنْ انْتَمَى أَوْ انْتَسَبَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ عَصَبِيَّةً بِشِعَارٍ مِنْ شِعَارَاتِ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَهَذَا جَزَاؤُهُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، ((فَأَعِضُّوهُ -فَأَمِصُّوهُ- بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكْنُوهُ))، هَكَذَا ظَاهِرًا، وَمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْعَى لِفُحْشٍ، وَلَكِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ قُبْحِ الْعَصَبِيَّةِ بِانْتِمَائِهَا.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، ((كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، فَلَا يَفْخَرَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا إِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَحَتَّى لَا يَتَكَبَّرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَأَوْرَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّارَ)).
*لَا عُنْصُرِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِيزَانُ التَّفْضِيلِ عِنْدَ اللهِ هُوَ التَّقْوَى:
إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَصَّبُونَ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، مَقَتَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، ((إِذْ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الصَّوَامِعِ وَالدَّيَّارَاتِ وَالْبِيَعِ))، حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ، وَهُوَ يَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ.
لَمَّا عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ- بِلَالًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ-، عَيَّرَهُ بِلَوْنِ أُمِّهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ السَّوْدَاء.
وَاشْتَكَى بِلَالٌ أَبَا ذَرٍّ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَقَالَ: ((إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)).
النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ ((مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ أَوْرَدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النَّارَ)).
قَالُوا: وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ)).
لَا انْتِمَاءَ إِلَّا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، أَعَزَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْتَمِي إِلَى عَائِلَةٍ وَلَا قَبِيلَةٍ وَلَا شَعْبٍ وَلَا وَطَنٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ أَنْسَابِنَا مَا نَصِلُ بِهِ أَرْحَامَنَا، فَقَالَ: ((تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ)).
وَلَكِنْ لَا عَصَبِيَّةَ، وَلَا انْتِمَاءَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ لِلْعَصَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا الِانْتِمَاءُ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي أَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ؛ لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّ النَّاسِ أَنَّهُمْ لِآدَمَ، وَأَنَّ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ، إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ.
وَنَبِيُّكُمْ ﷺ يُخْبِرُكُمْ مُنْذِرًا وَمُحَذِّرًا، فَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)).
وَقَدْ نَادَى النَّبِيُّ ﷺ الْعَبَّاسَ -عَمَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ- وَنَادَى عَمَّتَهُ صَفِيَّةَ، وَنَادَى ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالْآلِ أَجْمَعِينَ-: ((اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).
لَا أَحْسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا أَنْسَابَ، وَإِنَّمَا هُوَ الدِّينُ، فَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ مُسْلِمًا مُوقِنًا مُحْسِنًا؛ فَلَهُ الْمَقَامُ الْأَسْنَى عِنْدَ رَبِّهِ، وَهُوَ مُعَزَّزٌ مُكَرَّمٌ، وَمَنْ جَاءَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا- بِالْعَمَلِ الطَّالِحِ؛ فَلَهُ الْمَكَانُ الْأَرْدَى وَلَا كَرَامَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الِانْتِمَاءَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سَوَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَنَا جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ، وَرَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَنْ كَانَ تَقِيًّا -وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا-؛ كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَوْقَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا-.
*هَدَمَ الْإِسْلَامَ الْعُنْصُرِيَّةَ ضِدَّ الْمَرْأَةِ وَكَرَّمَهَا:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْحُقُوقِ لِلنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَا تُسَاوِي شَيْئًا، كَانَتْ تُورَثُ إِذَا مَاتَ مَنْ يَمْتَلِكُهَا -يَعْنِي إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا فَإِنَّهَا تُورَثُ كَمَا تُورَثُ الْأَشْيَاءُ-.
وَنَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ أَنْ يَرِثَ الْوَارِثُ الْمَرْأَةَ إِذَا مَاتَ الْمُوَرِّثُ، وَأَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرَأَةَ الْحُقُوقَ الْكَثِيرَةَ، وَلَيْسَ هُنَاكَ الْآنَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مَزِيَّةٌ وَلَا عَطِيَّةٌ وَلَا مِيزَةٌ تَتَمَتَّعُ بِهَا امْرَأَةٌ فِي الْعَالَمِ مَا دَامَتْ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ وَالْمِنْحَةُ وَالْعَطِيَّةُ مُوَافِقَةً لِلشَّرْعِ -يَعْنِي غَيْرَ خَارِجَةٍ عَنْ حُدُودِ الْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ-.
أَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ حَقَّهَا وَأَعَادَهَا إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ؛ إِنْسَانَةٌ لَهَا قَلْبٌ تُحِسُّ وَتَشْعَرُ، وَتُحِبُّ وَتَكْرَهُ، وَتَرِثُ؛ لِأَنَّهُ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِنْجِلِيزِ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ-، بَلْ وَلَيْسَ لِلْأَوْلَادِ الَّذِين يَأْتُونَ بَعْدَ الِابْنِ الْبِكْرِ مِنْ نَصِيبٍ فِي الْمِيرَاثِ!! يَصِيرُ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ إِلَى الِابْنِ الْبِكْرِ، وَلَا يَرِثُ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا لَا مِنَ الرِّجَالِ وَلَا مِنَ النِّسَاءِ!!
وَأَمَّا عِنْدَنَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُقُوقَ وَفَصَّلَهَا، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَفْرَادَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ حُقُوقِ النِّسَاءِ.
الْمَرْأَةُ فِي الْعَصْرِ الْجَاهِلِيِّ كَانَتْ تَعِيشُ حَيَاةً عَصِيبَةً جِدًّا، خُصُوصًا فِي الْمُجْتَمَعِ الْعَرَبِيِّ، كَانَ الرِّجَالُ يَكْرَهُونَ وِلَادَةَ الْبَنَاتِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَكَمَا وَصَفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يَكْرَهُونَ وِلَادتَهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْفَنُهَا وَهِيَ حَيَّةٌ، وَيَجْعَلُونَ هَذَا الْأَمْرَ -يَعْنِي لَوْ أَنَّ الْبِنْتَ ظَلَّتْ حَيَّةً- يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى حَيَاةِ الْمَذَلَّةِ وَالْمَهَانةِِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)} [النحل: 58-59].
لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ يَجِدُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ غَضَاضَةً، يَتَزَوَّجُ مَا شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَا شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ عَدَدًا كَثِيرًا، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا فَإِنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عِنْدَمَا يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي بَيْتِهَا، لَا تَقْرَبُ طِيبًا، وَلَا تَمْتَشِطُ، وَلَا تُغَيِّرُ ثِيَابَهَا -لَا تُبَدِّلُ الثِّيَابَ-، عِنْدَمَا مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ فِي ثِيَابٍ تَظَلُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَلَا تَغْسِلُ رَأْسَهَا، وَلَا تَضَعُ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهَا.
فَإِذَا مَا مَرَّ الْعَامُ، فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحِدَادِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْتَسِلُ، تَمْتَشِطُ، تُغيِّرُ الثِّيَابَ، وَتُورَثُ، يَرِثُهَا مَنْ هُنَالِكَ مِمَّنْ يَرِثُ الْمَيِّتَ، يَرِثُهَا كَمَا يَرِثُ الْمَتَاعَ.
*أَعَادَ الإِسْلَامُ لِلْمَرْأَةِ الاعْتِبَارَ فِي الإِنْسَانِيَّةِ وَرَفَعَ عَنْهَا المَظَالِمَ:
لمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ رَفَعَ هَذِهِ الْمَظَالِمَ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَأَعَادَ لَهَا الِاعْتِبَارَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ بَدْءًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13].
فَهُنَا تَسَاوٍ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ.
*الْإِسْلَامُ سَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ:
وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهَا شَرِيكَةٌ لِلرَّجُلِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ، فَسَوَّى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
فَسَوَّى فِي قَاعِدَةِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، لَا فَارِقَ.
*حَرَّمَ اللهُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْرُوثَاتِ:
حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الرِّجَالِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -وَكَانَ هَذَا مَعْمُولًا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ-، حَرَّمَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْرُوثَاتِ، يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19].
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَيَمُوتُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَيَأْتِي ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا فَيَرِثُهَا، فَتُصْبِحُ مِيرَاثًا لَهُ، إِنْ شَاءَ بَقِيَت عِنْدَهُ وَإِنْ شَاءَ سَرَّحَهَا.
*حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الْمِيرَاثِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ:
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ضَمِنَ لِلْمَرْأَةِ اسْتِقْلَالَ الشَّخْصِيَّةِ، وَجَعَلَهَا وَارِثَةً لَا مَوْرُوثَةً، وَجَعَلَ لَهَا حَقًّا فِي الْمِيرَاثِ مِنْ مَالِ قَرِيبِهِ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}.
لَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ مَحْجُوبَةً عَنِ الْأَعْيُنِ أَنْ تَنُوشَهَا وَأَنْ تَنتَهِكَ عِرْضَهَا، لَمْ يَجْعَلْهَا الْإِسْلَامُ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا الْإِسْلَامُ دُمْيَةً لَيْسَ لَهَا قِيمَةً، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِسْلَامُ الْمَرْأَةَ فِي مَوْضِعِهَا إِنْسَانَةً لَهَا جَمِيعُ الْحُقُوقِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلْإِنْسَانَةِ الْحقَّةِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ يَنْتَظِرُكُمْ، مُطَبِّقِينَ لِدِينِكُمْ، مُحَقِّقِينَ لِتَوْحِيدِكُمْ، مُتَّبِعِينَ لِنَبِيِّكُمْ؛ لِكَيْ يُخْرِجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَالَمَ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ، وَمِنْ عَنَتِهِ وَفُجُورِهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((رَحْمَةُ الْإِسْلْامِ فِي فُتُوحَاتِهِ وَنَبْذُهُ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ))
فَالْحَقُّ - عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْإِسْلَامَ انْتَصَرَ عَلَى السَّيْفِ، انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ الَّذِي رُفِعَ عَلَيْهِ مِنْ بِدَايَةِ الدَّعْوَةِ مِنْ بِدَايَةِ الطَّرِيقِ، انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ وَلَمْ يَنْتَصِرْ بِالسَّيْفِ.
انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ فِي بَطْشِ السَّيْفِ وَظُلْمِهِ وَسُوءِ تَوْظِيفِهِ؛ فَكَانَ السَّيْفُ رَحْمَةً حَيْثُ كَانَ، وَانْتَصَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى السَّيْفِ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى رِقَابِ أَتْبَاعِهِ مُنْذُ أُعْلِنَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
لَقَدْ تَحَمَّلَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَائِلُ صُنُوفَ الِاضْطِهَادِ كَافَّةً؛ طُورِدُوا، وَشُرِّدُوا، وَعُذِّبُوا، وَقُتِّلُوا حَتَّى إِنَّ رَجُلًا كَأَبِي جَهْلٍ يَعْتَدِي أَقْبَحَ اعْتِدَاءٍ عَلَى امْرَأَةٍ ضَعِيفَةٍ مُسْتَضْعَفَةٍ، هِيَ سُمَيَّةُ أُمُّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فَيَطْعَنُهَا بِالْحَرْبَةِ فِي مَوْطِنِ الْعِفَّةِ مِنْهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ.
وَمَعَ ذَلِكَ الِاضْطِهَادِ وَالْعُنْفِ أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِكَفِّ الْأَيْدِي، وَبِعَدَمِ الرَّدِّ عَلَى الْعُدْوَانِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77].
وَلَمَّا أُذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ كَانَ التَّعْلِيلُ فِي الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ وَاضِحًا، قَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39-40].
فَهَذَا ذَنْبُهُمْ عِنْدَ أَعْدَائِهِمْ، لَمْ يَرْفَعُوا سَيْفًا وَلَمْ يَبْسُطُوا يَدًا.
*أَحْدَاثُ التَّارِيخِ تُثْبِتُ انْتِصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّيْفِ وَنَبْذَهُمْ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ:
الْيَوْمَ مَا يَزَالُ الْإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ سَيْفٌ.
فَانْتِشَارُ الْإِسْلَامِ الْآنَ مَا هُوَ؟
وَأَيْنَ السَّيْفُ الْمُسلَّطُ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ حَتَّى تَدْخُلَ هَذِهِ الْأُلُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ فِي أَيَّامِنَا هَذِهِ وَفِي أَعْوَامِنَا هَذِهِ وَفِي عَصْرِنَا هَذَا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا؟!
وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا سَادَةَ الْهِنْدِ لِمُدَّةِ أَلْفِ عَامٍ، وَلَكِنْ حَدَثَ عِنْدَمَا نَالَتْ شِبْهُ الْقَارَّةِ الْهِنْدِيَّةِ اسْتِقْلَالَهَا فِي عَامِ (سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَلْفٍ 1947م) أَنْ حَصَلَ الْهُنْدُوسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مِسَاحَةِ الْهِنْدِ وَحَصَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُبُعِ مِسَاحَةِ الْهِنْدِ فَقَطْ.
لِمَاذَا حَدَثَ ذَلِكَ؟
لَقَدْ حَدَثَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ خِلَالَ أَلْفِ عَامٍ مِنْ سَيْطَرَتِهِمْ عَلَى أَرَاضِي الْهِنْدِ لَمْ يُجْبِرُوا الْهُنْدُوسَ عَلَى اعْتِنَاقِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ اعْتِمَادًا عَلَى السَّيْفِ وَلَمْ يَفْعَلِ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْفَعْلَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي إِسْبَانيَا وَلَا فِي الْهِنْدِ؛ وَلَمْ يَكُنِ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدَ التَّحَلِّي بِفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ فَحَسْبُ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ نُزُولًا عَلَى مُقْتَضَيَاتِ أَمْرٍ إِلَهِيٍّ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، إِذْ يَقُولُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
وَلَقَدْ أَدْرَكَ الْمُسْلِمُونَ الْمُنْتَصِرُونَ وَأَيْقَنُوا بِمُوجَبِ هَذَا الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَكُنْ لِيَتَّسِقَ مَعَ الدِّينِ الصَّحِيحِ لِلْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ، الْإِكْرَاهُ لَا يَتَلَاءَمُ وَلَا يَتَّسِقُ مَعَ الدِّينِ الصَّحِيحِ لِلْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ:
*يَعْتَمِدُ الدِّينُ الصَّحِيحُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِرَادَةِ، وَسَيَفْقِدُ الْإِيمَانُ وَسَتَفْقِدُ الْإِرَادَةُ كُلَّ مَعْنًى لَوْ تَمَّ فَرْضُ الدِّينِ عَلَى النَّاسِ بِالْقُوَّةِ الْغَاشِمَةِ.
*الْقُوَّةُ الْغَاشِمَةُ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَهْزِمَ وَتَقْهَرَ، وَلَكِنَّهَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ كَافِيَةً لِيَتَحَوَّلَ إِنْسَانٌ بِحَقٍّ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ.
*الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَالرُّشْدُ وَالْغَيُّ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ، قَدْ تَمَّ تَوْضِيحُ كُلٍّ مِنْهَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَيُّ رَيْبٍ أَوْ أَيُّ شَكٍّ فِي عَقْلِ أَيِّ إِنْسَانٍ يُخْلِصُ النِّيَّةَ فِي التَّوَجُّهِ الصَّحِيحِ نَحْوَ حَقَائِقِ أُسُسِ الْإِيمَانِ.
*رِعَايَةُ اللهِ وَعِنَايَتُهُ مُسْتَمِرَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْبَشَرِ، وَلَقَدْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُرْشِدَنَا فِي غَيَاهِبِ الظَّلَامِ لِنَحْصُلَ عَلَى أَوْضَحِ أَنْوَارِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى قَهْرٍ أَوْ إِجْبَارٍ.
وَفِيمَا عَدَا بَعْضَ الْمُمَارَسَاتِ الْقَلِيلَةِ الْخَاطِئَةِ هُنَا أَوْ هُنَاكَ، نَجِدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا قَدِ امْتَثَلُوا لِلْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ فِي كُلِّ الْأَرَاضِي الَّتِي خَضَعَتْ لِفُتُوحَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
*أَيْنَ الْعُنْفُ وَالْعُنْصُرِيَّةُ فِي فَتْحِ الْمُسْلِمِينَ لِلْبِلَادِ الَّتِي فَتَحُوهَا؟!!
هَؤُلَاءِ النَّصَارَى بِـ(مِصْرَ)؛ لِمَاذَا بَقَوْا عَلَى دِينِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ؟!!
لِمَاذَا لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يُقْتَلُوا؟!!
وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، إِنَّمَا كَانَتِ الْحَرْبُ فِي جِهَادِ الطَّلَبِ مِنْ أَجْلِ إِزَالَةِ الْأَنْظِمَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَكَلِمَةِ اللهِ، فَإِنْ قَبِلَتْ هَذِهِ الشُّعُوبُ كَلِمَةَ اللهِ فَذَلِكَ، إِخْوَانُنَا فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنْ آثَرَتْ أَنْ تَبْقَى عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلَهُمْ دِينُهُمْ، ثُمَّ الْجِزْيَةُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَهُمْ حُقُوقُهُمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَالنَّبِيُّ؛ بَقِيَ (الْيَهُودُ فِي الْمَدِينَةِ) عَلَى دِينِهِمْ وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ (نَصَارَى نَجْرَانَ)، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ (الْمَجُوسِ)، أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ (الرُّومُ).
وَمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ الْخُصُومُ عَنْ أَقْطَارٍ لَمْ يَضَعْ فِيهَا جُنْدِيٌّ مُسَلَّحٌ مُسْلِمٌ قَدَمَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟
(إِنْدُونِسْيَا)...الْحَقِيقَةُ هِيَ أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ (مِئَةِ مُلْيُونِ إِنْدُونِسِيٍّ) إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَطَأْ أَقْدَامُ أَيِّ جَيْشٍ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَرْضَ فِي أَكْثَرِ مِنْ أَلْفَيْ جَزِيرَةٍ فِي إِنْدُونِسْيَا، فَأَيْنَ السَّيْفُ هَاهُنَا؟!
وَهَذِهِ أَكْبَرُ بَلْدَةٍ أَوْ دَوْلَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ.
(مَالِيزيَا)...الْغَالِبِيَّةُ الْعُظْمَى مِنْ سُكَّانِ مَالِيزيَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَطَأْ قَدَمُ جُنْدِيٍّ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ أَرَاضِي مَالِيزيَا.
(إِفْرِيقِيَّةُ)...أَغْلَبِيَّةُ النَّاسِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ فَوْقَ أَرَاضِي السَّوَاحِلِ الشَّرْقِيَّةِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ، حَتَّى مُوزَنْبِيقَ إِنَّمَا هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَوْقَ أَرَاضِي السَّوَاحِلِ الْغَرْبِيَّةِ فِي إِفْرِيقِيَّةَ أَيْضًا نَجِدُ أَنَّ أَغْلَبِيَّةَ السُّكَّانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ لَمْ يُسَجِّلْ أَيَّ غَزَوَاتٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَقْطَارِ الْإِفْرِيقِيَّةِ جَاءَتْ إِلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ.
مَا السَّيْفُ؟! وَأَيْنَ كَانَ السَّيْفُ؟!
إِنَّ الَّذِي اسْتَخْدَمَ الْقُوَّةَ الْغَاشِمَةَ هُمُ الْغَرْبُ وَلَيْسُوا الْمُسْلِمِينَ.
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ حَمَلُوا الْحُرِّيَّةَ الَّتِي تَعْتِقُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ، وَحَمَلُوا الْكَرَامَةَ وَالْمُسَاوَاةَ، وَحَمَلُوا الْقِيَمَ الْعُلْيَا الَّتِي جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ وَطِأَتْهَا أَقْدَامُهُمْ.
وَفِي (السَّوَاحِلِ الْغَرْبِيَّةِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ) يَنْتَشِرُ الْإِسْلَامُ بِقِيَمِهِ وَمُثُلِهِ وَبِتَعَالِيمِهِ، فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ.
إِنَّ جِهَادَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَانْتِصَارَهُ عَلَى جُيُوشِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ الْأَشْرَارِ قَدْ جَعَلَتْ مُحَرِّرِي ((دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْبِرِيطَانِيَّةِ)) يُعْلِنُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هُوَ أَعْظَمُ الشَّخْصِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ نَجَاحًا فِي التَّارِيخِ -فَهَذَا كَلَامُهُمْ-.
كَيْفَ يَحِقُّ إِذَنْ لِخُصُومِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَعْتَبِرُوا أَنَّ انْتِصَارَاتِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَيُّ هَدَفٍ أَوْ أَيُّ قِيمَةٍ سِوَى أَنَّهَا قَدْ أَتَاحَتْ لَهُ أَنْ يَنْشُرَ دِينَهُ الْإِسْلَامِيَّ اعْتِمَادًا عَلَى السَّيْفِ، وَغَلَبَتِ الْجُيُوشَ وَالرِّمَاحَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ؟
هَلْ فَرَضَ مُحَمَّدٌ ﷺ الْإِسْلَامَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ بِأَنْ قَطَعَ رِقَابَ النَّاسِ؟!
الْمُسْلِمُونَ كُثُرٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْبِلَادِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ بِقَطْعِ رِقَابِ النَّاسِ؟!
وَهَذِهِ شَهَادَاتٌ لِرِجَالٍ غَرْبِيِّينَ مُسْتَشْرِقِينَ بَاحِثِينَ فِي حَضَارَةِ الْإِسْلَامِ لَا يُشَكُّ فِي تَحَيُّزِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ يَنْطِقُ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مَا فِيهِ.
يَقُولُ (دِي لَاسِي أُولِيرِي) مَا نَصُّهُ: ((إِنَّ التَّارِيخَ يُؤَكِّدُ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالًا لَأَيِّ شَكٍّ أَنَّ خُرَافَةَ الِاجْتِيَاحِ الْبَرْبَرِيِّ لِمِسَاحَاتٍ شَاسِعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِجْبَارِ النَّاسِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ فَوْقَ رِقَابِ الشُّعُوبِ الْمَغْلُوبَةِ عَلَى أَمْرِهَا؛ إِنَّمَا هِيَ خُرَافَةٌ خَيَالِيَّةٌ مُضْحِكَةٌ عَارِيَةٌ تَمَامًا مِنَ الصِّحَّةِ وَبَعِيدَةٌ كُلَّ الْبُعْدِ عَنِ الْحَقِيقَةِ عَلَى نَحْوٍ نَادِرِ الْمِثَالِ فِي دُنْيَا التَّارِيخِ وَفِي عَالَمِ الْمُؤَرِّخِينَ)).
كِتَابُ ((الْإِسْلَامُ فِي مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ - لَدَي لَاسِي أُولِيرِي طَبْعَةُ لَنْدَن سَنَةَ 1923 الصَّفْحَةُ 8)).
*أَيْنَ عُنْصُرِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي إِسْبَانِيَا -الْأَنْدَلُسِ-؟!!
وَلَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَكُونَ مُؤَرِّخِينَ مِثْلَ (أُولِيرِي) لِكَيْ نَعْرِفَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ حَكَمُوا إِسْبَانيَا لِمُدَّةِ 736 عَامٍ، وَبَعْدَ قُرَابَةِ ثَمَانِيَةِ قُرُونٍ تَمَّ إِقْصَاءُ وَإِبْعَادُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِسْبَانيَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ يُقِيمُ الْأَذَانَ مُعْلِنًا وُجُوبَ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدِ اسْتَخْدَمُوا الْقُوَّةَ عَسْكَرِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا فِي إِسْبَانيَا بَعْدَمَا فَتَحُوهَا لَمَا بَقِيَ فَوْقَ أَرْضِ إِسْبَانيَا أَيُّ نَصْرَانِيٍّ لِيَقُومَ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرْدِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَ إِسْبَانيَا.
فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَّهِمَ أَحَدٌ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَخْدَمُوا السَّيْفَ لِكَيْ يُحَوِّلُوا الْإِسْبَانِيِّينَ إِلَى مُسْلِمِينَ يَعْتَنِقُونَ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ خَوْفًا مِنْ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ.
*يَقُولُ (بَاندِكْت جييانا نيترا ديب شاستري) أَثْنَاءَ لِقَاءٍ تَمَّ عَقْدُهُ فِي جورافور بِالْهِنْدِ سَنَةَ (ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَلْفٍ 1928)، يَقُولُ:
((إِنَّ مُنْتَقِدِي مُحَمَّدٍ ﷺيَرَوْنَ النَّارَ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُشَاهِدُوا النُّورَ، وَيَسْتَسِيغُونَ الْقُبْحَ بَدَلًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَمَالِ، إِنَّهُمْ يُخَرِّفُونَ، وَيَعْتَبِرُونَ كُلَّ فَضِيلَةٍ وَمَيْزَةٍ وَكَأَنَّهَا رَذِيلَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ.
إِنَّ ذَلِكَ إِنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ نِعْمَةِ التَّمْيِيزِ وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ؛ إِنَّ مُنْتَقِدِي مُحَمَّدٍ ﷺ إِنَّمَا هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمْيَانِ-كَلَامُهُ- إِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ أَنَّ السَّيْفَ الْوَحِيدَ الَّذِي شَهَرَهُ وَشَرَعَهُ مُحَمَّدٌ ﷺ إِنَّمَا كَانَ هُوَ سَيْفُ الرَّحْمَةِ وَسَيْفُ التَّعَاطُفِ وَالصَّدَاقَةِ وَالتَّسَامُحِ إِنَّهُ السَّيْفُ الَّذِي يَهْزِمُ الْأَعْدَاءَ وَيُنَظِّفُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْغَضَبِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْكَرَاهِيَةِ.
لَقَدْ كَانَ سَيْفُهُ أَمْضَى مِنَ السَّيْفِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الْحَدِيدِ الصُّلْبِ، لَقَدْ فَضَّلَ مُحَمَّدٌ ﷺ الْهِجْرَةَ عَلَى قِتَالِ أَبْنَاءِ بَلَدِهِ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا تَجَاوَزَ الْعُدْوَانُ كُلَّ حُدُودِ إِمْكَانَاتِ التَّسَامُحِ؛ امْتَشَقَ سَيْفَهُ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ، وَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَيَّ دِينٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ نَشْرُهُ بِالسَّيْفِ إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَمْقَى، لَا يَعْرِفُونَ الطُّرُقَ السَّلِيمَةَ لِنَشْرِ الدِّينِ، وَلَا يَعْرِفُونَ فِيمَا تُسْتَخْدَمُ السُّيُوفُ، وَلَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ شُئُونِ الدُّنْيَا بِوَجْهٍ عَامٍّ إِنَّهُمْ مَزْهُوُّونَ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ الْحَقِّ بِمَسَافَاتٍ كَبِيرَةٍ شَاسِعَةٍ)).
قَالَ هَذَا الْكَلَامَ صَحَفِيٌّ مِنْ طَائِفَةِ السِّيخِ فِي جَرِيدَةٍ تَصْدُرُ فِي دِلْهِي فِي 17 نُوفَمْبِر سَنَةَ 1947م.
((حَضَارَةُ الْعُنْصُرِيَّةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ!!))
إِنَّ أَمْرِيكَا أُمَّةٌ بِلَا تَارِيخٍ، أَجْدَادُهُمْ مَنْ أُخْرِجَ مِنْ سُجُونِ إِسْبَانيَا وَالْبُرْتُغَالِ، مِمَّنْ ذُهِبَ بِهِمْ إِلَى هُنَاكَ لِيَتَخَلَّصُوا مِنْهُمْ، أُبِيدَ شَعْبٌ كَامِلٌ هُمُ الْهُنُودُ الْحُمْرُ بِلَا ذَنْبٍ وَلَا جَرِيرَةٍ، وَاقْتِيدَ مَنِ اقْتِيدَ مِنَ الْأَحْرَارِ الْأَفْرِيقِيِّينَ مِنَ السَّوَاحِلِ الْغَرْبِيَّةِ، مَاتَ مَنْ مَاتَ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَكَانَ مَا كَانَ.
وَلَمَّا وَقَعَتْ بَعْضُ الِاضْطِرَابَاتِ فِي الْحَيِّ الْفَرَنْسِيِّ بِبَارِيسَ الَّذِي يَقْطُنُهُ غَالِبِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ تَرْجِعُ أُصُولُهَا إِلَى الْمَغْرِبِ الْعَرَبِيِّ الْإِسْلَامِيِّ، قَالَ رَئِيسُ فَرَنْسَا حِينَذَاكَ: هَذِهِ الْحُثَالَةُ!! وَكَانَتْ فِتْنَةٌ..
أَلَا تَذْكُرُونَ مَا وَقَعَ فِي أَمْرِيكَا مِنْ ذَلِكَ الصِّرَاعِ الدَّمَوِيِّ الْمُلْتَهِبِ بَيْنَ السُّودِ وَالْبِيضِ قَرِيبًا، فَكَيْفَ عُومِلَ هَؤُلَاءِ؟ وَعَلَى أَكْتَافِهِمْ وَبِسَوَاعِدِهِمْ وَسَوَاعِدِ أَجْدَادِهِمُ الَّذِينَ اخْتُطِفُوا مِنَ السَّاحِلِ الْغَرْبِيِّ الْأَفْرِيقِيِّ كَالْأَنْعَامِ؛ فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ فِي السُّفُنِ، شُحِنُوا شَحْنَ الشِّيَاةِ، وَأَمَّا مَنْ وَصَلَ فَسِيمَ الْخَسْفَ عُبُودِيَّةً وَقَدْ خَلَقَهُمُ اللهُ أَحْرَارًا.
وَإِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا أَنْزِلَتْ بَعْضُ الْمَحَلَّاتِ هُنَاكَ فِي الدَّوْلَةِ الَّتِي تُبَشِّرُ بِالْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَبِالْقَرْنِ الْأَمْرِيكِيِّ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَبِالْعَوْلَمَةِ، وَبِالْحُكُومَةِ الْعَالَمِيَّةِ، وَبِالْيَسُوعِيَّةِ الْجَدِيدَةِ الْمُنْتَظَرَةِ، وَهِيَ شَيْءٌ سِوَى الْمَاسُونِيَّةِ، وَإِنْ تَطَابَقَتْ مَعَهَا فِي بَعْضِ صُوَرِهَا، مَاذَا صَنَعُوا؟!
قَتَلُوهُمْ، بَلْ قَتَّلُوهُمْ وَقَمَعُوهُمْ، حَتَّى اضْطُرَّتْ بَعْضُ الدُّوَلِ الَّتِي تُوصَمُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بِالْإِرْهَابِ إِلَى تَوْصِيَةِ الْإِدَارَةِ هُنَاكَ بِضَبْطِ النَّفْسِ؛ كَمَا يَفْعَلُونَ، ضَبْطُ النَّفْسِ مَعَ مَنْ؟ أَلَا تَذْكُرُونَ؟!! ؛ مَا زَالَتْ بَعْضُ الْمَحَلَّاتِ هُنَاكَ تَرْفَعُ لَافِتَةً لِكُلِّ دَاخِلٍ: مَمْنُوعٌ دُخُولُ السُودِ وَالْكِلَابِ، هَكَذَا ... هَكَذَا!!
نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الْعَالَمَ السَّلَامَ بِشَرَائِطِهِ، بِأَحْكَامِهِ وَقَوَاعِدِهِ، لَيْسَ بِالْمَذَلَّةِ يُسْتَجْلَبُ وَلَا بِالذُّلِّ وَالْعَارِ، وَمَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.
نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الْعَالَمَ كُلَّهُ قِيَمَ الْخَيْرِ، قِيَمَ الصِّدْقِ، الْقِيَمُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا بِحَقٍّ، وَلَوْلَا هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ مَا عُرِفَ شَرَفٌ وَلَا رُوعِيَ عِرْضٌ.
إِنَّ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ، وَالْهُدَى وَالْعَدْلَ، وَالرَّحْمَةَ وَالسَّلَامَ فِي دِينِ نَبِيِّ السَّلَامِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَأَزْكَى السَّلَامِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
((حَضَّ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَنَبَذَ الْكَرَاهِيَةَ))
*حَثَّ الِإْسَلَامُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالتَّرَاحُمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيَةُ ائْتِلَافٍ، فَلَا تَخْتَلِفُوا، وَجَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيَةُ مَحَبَّةِ، فَلَا تَبَاغَضُوا.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ)).
إِذَنْ، الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ.
إِنَّ الْأُخُوَّةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى نَوْعَيْنِ:
*أُخُوَّةٌ هِيَ أُخوَّةُ النَّسَبِ.
*وَأُخُوَّةٌ هِيَ أُخُوَّةُ الْعَقِيدَةِ.
فَأَمَّا الْأُخُوَّةُ الْأُولَى فَإِنَّهَا هِيَ أَوَّلُ مَا يَحْرِصُ الْمَرْءُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ، إِذَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مَا يَسُوءُ؛ هِيَ أَوَّلُ مَا يَنْطِقُ بِهِ الْمَرْءُ إِذَا مَا أَتَاهُ مَا يُفْجِعُهُ وَيُفْظِعُهُ كَأَنَّمَا يَدْعُو أَخَاهُ لِيُنْقِذَهُ بِقُدْرَتِهِ الَّتِي مَكَّنَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا وَمِنْهَا مِمَّا قَدْ أَلَّمَ بِهِ ((أَخ))، هِيَ أَوَّلُ مَا يَأْتِي لِلْإِنْسَانِ عِنْدَمَا يَقَع عَلىٰ الْإِنْسَانِ مَا يَسُوؤُهُ.
*وَأَمَّا أُخُوَّةُ الْعَقِيدَةِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ عَنْ أُخُوَّةِ الْعَقِيدَةِ لَا نَسَبَ وَلَا رَحِمَ: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَأُنَاسٍ مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا بِشُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَقَامِهِمْ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».
قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «هُمْ أَقْوَامٌ تَحَابُّوا عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَعَلَى غَيْرِ أَمْوَالٍ يَتَعَاطُونَهَا».
أَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقَانُونِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ صَاحِبُ الْبَيِّنَةِ؟!!
*نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ التَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:
النَّبِيُّ ﷺ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ فِي غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ عَلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَنَهَى عَنِ الْحَسَدِ وَتَمَنِّي الشَّرِّ، وَأَمَرَهُمْ ﷺ أَنْ يَكُونُوا مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ.
فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى والرَّشَادِ، وَنَهَانَا عَنْ كُلِّ خُلُقٍ مَذْمُومٍ.
فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «صَحِيحِهِ».
قَوْلُهُ: «لَا تَبَاغَضُوا»؛ أَيْ: لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ بَيْنَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: «لَا تَحَاسَدُوا»؛ أَيْ: لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ زَوَالَ النِّعْمَةِ مِنَ الْبَعْضِ، أَوْ لَا يَكْرَهَنَّ أَحَدُكُمْ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَخِيهِ، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْحَسَدِ، فَحَقِيقَةُ الْحَسَدِ أَنْ تَكْرَهَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَخِيكَ، فَمَهْمَا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَخِيكَ مِنْ نِعْمَةٍ فَكَرِهْتَهَا فَأَنْتَ لَهُ حَاسِدٌ.
وَقَوْلُهُ: «لَا تَدَابَرُوا»: وَالْمُدَابَرَةُ: الْمُصَارَمَةُ بِالْهِجْرَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ دُبُرَهُ، وَيُعْرِضَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ: «التَّقَاطُعُ».
وَقَوْلُهُ: «لَا تَبَاغَضُوا»: لَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ، تَحَابُّوا فِي اللهِ، الْبُغْضُ لَا يُكْتَسَبُ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا بِأَسْبَابِهِ، فَلَا تَتَعَاطَوْا أَسْبَابَ الْبُغْضِ، لَا تَخْتَلِفُوا فِي الْأَهْوَاءِ وَالْمَذَاهِبِ، فَالْبِدْعَةُ فِي الدِّينِ، وَالضَّلَالُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ الْبُغْضَ.
وَالنَّهْيُ عَنِ التَّبَاغُضِ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّحَابُبِ مُطْلَقًا؛ إِلَّا مَا يَخْتَلُّ بِهِ الدِّينُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ التَّحَابُبُ، وَيَجُوزُ التَّبَاغُضُ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وَالتَّحَابُبُ سَبَبٌ لِلِاجْتِمَاعِ، وَالتَّبَاغُضُ سَبَبٌ لِلِافْتِرَاقِ.
وَالْمَعْنَى: لَا يُبْغِضْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، لَا تَشْتَغِلُوا بِأَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ؛ إِذِ الْعَدَاوَةُ وَالْمَحَبَّةُ مِمَّا لَا اخْتِيَارَ فِيهِ، فَإِنَّ الْبُغْضَ مِنْ نِفَارِ النَّفْسِ عَمَّا يُرْغَبُ عَنْهُ، وَأَوَّلُهُ الْكَرَاهَةُ وَأَوْسَطُهُ النُّفْرَةُ وَآخِرُهُ الْعَدَاوَةُ، كَمَا أَنَّ الْحُبَّ مِنَ انْجِذَابِ النَّفْسِ إِلَى مَا يُرْغَبُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا»: كُونُوا مُتَوَاصِلِينَ مُتَرَاحِمِينَ.
وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: «عِبَادَ اللهِ» -بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ- إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّكُمْ عَبِيدٌ للهِ وَمِلَّتُكُمْ وَاحِدَةٌ، وَالتَّحَاسُدُ وَالتَّقَاطُعُ وَالتَّدَابُرُ مُنَافٍ لِحَالِكُمْ، فَحَقُّكُمْ أَنْ تَتَوَحَّدُوا، وَأَنْ تَتَآخَوْا، وَأْنَ تَتَعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ، وَأَنْ تَتَعَاشَرُوا بِمَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ، وَأَنْ تَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالنَّصِيحَةِ.
وَقَوْلُهُ: «وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ»؛ أَيْ: بِأَيَّامِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ الْهَجْرُ فِي ثَلَاثٍ وَمَا دُونَهُ؛ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْآدَمِيُّ مِنَ الْغَضَبِ فَسُومِحَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ؛ لِيَرْجِعَ مِنْ ذَلِكَ الْغَضَبِ وَلِيَزُولَ ذَلِكَ الْعَرَضُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَهْجُرَ فَوْقَ تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَهَذا فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَتْبٍ وَمَوْجِدَةٍ أَوْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ دُونَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ.
*حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى إِزَالَةِ الْهِجْرَانِ، وَالتَّسَابُقِ إِلَى نَبْذِ الْخِلَافِ:
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَخْبَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الصَّحِيحِ»، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
قَوْلُهُ: «لَا يَحِلُّ»: لَا يَجُوزُ.
قَوْلُهُ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ»: فَلا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالْفُسَّاقِ الْمُدْمِنِينَ عَلَى ذَلِكَ.
وَالتَّحْرِيمُ هُوَ الْأَرْجَحُ؛ يَعْنِي: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ.
فَهَذَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ أَنْ يَهْجُرَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لِيَالٍ، إِلَّا لِمَنْ خَافَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ مَضَرَّةَ دِينٍ أَوْ دُنْيَا.
قَوْلُهُ: «فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا»: يُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا؛ أَيْ: يُوَلِّيهِ عُرْضَهُ -وَهُوَ جَانِبُهُ-.
قَوْلُهُ: «وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ»؛ أَيْ: هُوَ أفْضَلُهُمَا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى إِزَالَةِ الْهِجْرَانِ، وَأَنَّ السَّلَامَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ، فَإِذَا سَلَّمَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْهِجْرَةِ، لِقَوْلِهِ ص: «وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».
وَفِيهِ: فَضْلُ الَّذِي يَتَسَابَقُ إِلَى نَبْذِ الْخِلَافِ، وَإِنْشَاءِ التَّآخِي فِي الدِّينِ وَإِيجَادِ التَّآلُفِ وَالتَّوَادِّ وَالْمَحَبَّةِ بِتَقْديمِ السَّلَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْإِزْرَاءِ بِالنَّفْسِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْحَطِّ عَلَيْهَا بِحَالٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَذَلَّةِ، بَلْ إِنَّ الْعِزَّ الْحَقِيقِيَّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَذَلَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَفِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ الْكَرِيمِ.
فَإِذَا خَضَعَ الْإِنْسَانُ لِدِينِ اللهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ عَزِيزًا، وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ فَإِنَّها تُورِثُ الْمَذَلَّةَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي».
فَإِذَا الْتَقَى الْمُتَهَاجِرَانِ يَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، خَيْرُهُمَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَفِي دِينِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي يَبْدَأُ أَخَاهُ بِالسَّلَامِ، وَأَمَّا الشُّمُوخُ وَعِزَّةُ النَّفْسِ بِالْبَاطِلِ فَذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
يَا للهِ الْعَجَب! إِنَّ النَّاسَ إِذَا مَا خَرَجُوا مِنْ ذَوَاتِهِمْ، وَإِذَا مَا أَخْرَجُوا ذَوَاتَهُمْ مِنْ ذَوَاتِهِمْ، وَإِذَا مَا عَادُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى هَيْئَةِ الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ، لَا عَلَى هَيْئَةِ الْمُسُوخِ الْمُشَوَّهَةِ، الَّتِي عَدَا عَلَيْهَا الْحِرْصُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَالطَّمَعُ، فَأَصَبَحَتْ مُشَوَّهَةَ الصُّورَةِ وَمُشَوَّهَةَ الْبَاطِنِ، مُشَوَّهَةَ الْقَلْبِ وَمُشَوَّهَةَ الْقَالِبِ.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَدْعُو الْأُمَّةَ لِكَيْ تَكُونَ جَسَدًا وَاحِدًا.
* الْأُمَّةُ الْيَوْمَ تَحْتَاجُ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا أَنْ يَكُونُوا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ:
يَا جُزُرًا مُتَنَائِيَةً مُتَبَاعِدَةً، هَلُمُّوا تَقَارَبُوا، فَإِنَّ الْمَوْجَةَ عَاتِيَةٌ، وَإِنَّ الْخَطَرَ دَاهِمٌ، وَإِنَّ أَخْطَرَ مِنَ الْخَطَرِ أَلَّا يُحِسَّ مَنْ كَانَ فِي الْخَطَرِ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ.
وَالْأُمَّةُ الْيَوْمَ تَحْتَاجُ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا أَنْ يَكُونُوا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَجْعَلُوا تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ، تَحْتَ أَحْذِيَتِهِمْ وَدَبْرَ آذَانِهِمْ، أَنْ يَجْعَلُوا تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ أَحْقَادَهُمُ الصَّغِيرَةَ، وَأَطْمَاعَهُمُ الرَّدِيئَةَ، وَتَصَوُّرَاتِهِمْ الْمَرِيضَةَ، أَنْ يَعُودُوا إِلَى التَّمَسُّكِ بِشِرْعَةِ الْمَحَبَّةِ -شِرْعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ-، وَإِلَّا فَإِنَّ النَّذِيرَ قَائِمٌ مُسَلَّطٌ كَالسَّيْفِ الْمُسْلَطِ عَلَى الرِّقَابِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا».
إِذَنْ، لَنْ تُحَصِّلُوا الْإِيمَانَ حَتَّىٰ تَحَابُّوا، وَلَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا، فَعَلَّقَ الْأَمْرَ عَلَى شَرْطِهِ -شَرْطُهُ الثَّانِي-، فَلَا إِيمَانَ بِغَيْرِ مَحَبَّةٍ، وَلَا دُخُولَ لِجَنَّةٍ بِغَيْرِ إِيمَانٍ، وَإِذنْ، فَمِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: لَا دُخُولَ لِلْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ حُبٍّ.
«أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».
إِنَّ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيَةُ مَحَبَّةٍ، فَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، دَعُوا مَرَّةً وَاحِدَةً أَحْقَادَكُمُ الصَّغِيرَةَ، وَهُمُومَكُمَ الرَّدِيئَةَ، وَتَصَوُّرَاتِكُمْ الْمَرِيضَةَ، دَعُوهَا تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، وَأَنَا زَعِيمٌ لَكُمْ -بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- بِانْطِلَاقَةٍ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ، بِفُسْحَةِ أُفُقٍ لَيْسَ لَهُ مُنْتَهَى، وَأَنَا زَعِيمٌ لَكُمْ -بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- بِسَعَةِ رُوحٍ لَا انْتِهَاءَ لَهَا، وَأَنَا زَعِيمٌ لَكُمْ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- بِجَنَّةٍ فِي الدُّنْيَا لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ الَآخِرَةَ إِلَّا إِذَا دَخَلْتُمُوهَا.
عِبَادَ اللهِ! النبيُّ ﷺ بُعِثَ بِدِينِ السَّلَامِ، بِدِينِ الرَّحْمَةِ، بِالدِّينِ العَظِيمِ الَّذِي يُؤَلِّفُ وَيُجَمِّعُ، وَلَا يُنَفِّرُ وَلَا يُفَرِّقُ، هُوَ دِينُ الْحَقِّ دِينُ اللهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.