تفريغ مقطع : يوم عرفة وفضل صيامه

 فِي العَشْرِ مِن ذِي الحِجَّة يَومٌ عَظِيمٌ قَدرُه, جَلِيلٌ أَثرُه؛ وَهُو يَومُ عَرفَة.
أَخرَجَ مُسلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بسَنَدِهِ عَن عَائشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا- عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِم الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).
وَفِي الحَدِيثِ إِثبَاتُ صِفَةِ النُّزولِ لِلرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا- فِي يَومِ عَرَفَة؛ وَهُوَ نُزولٌ حَقِيقِيٌّ علَى مَا يَلِيقُ بِالرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا-.
وَأخَرَجَ مُسلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بسَنَدِهِ عَن أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: ((صِيَامُ يَومِ عَرَفَة احتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنّْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التِي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ التِي بَعدَهُ)).
وَفِي لَفظٍ: سُئلَ عَن صَومِ يَومِ عَرَفَة فَقَالَ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَة وَالسَّنَةَ البَاقِيَة)).
وَتَكفِيرُ الذُّنوبِ بمِثلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ لِلكبَائرِ مِن غَيرِ تَوبَة, وَلَا يَكُونُ تَكفِيرُ الذُّنوبِ بمِثلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لِحُقوقِ العِبَادِ؛ فَإِنَّهَا لَابُدَّ أَنْ تُؤَدَّى, فَإِنَّمَا يُكَفَّرُ مِنَ الذِّنُوبِ مَا يُكَفَّرُ بمِثلِ هَذِهِ الطَّاعَات.
وَلَا يَقَعُ الصَّومُ كَمَا هُوَ مَعلُومٌ مِن أَحَدٍ بَعدَ المَعصُومِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كَمَا يَنبَغِي أَنْ يَقَعَ, وَكَمَا يُحِبُّهُ العَبدُ المُؤمِنُ لِنَفسِهِ أَنْ يَقَعَ, فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ التَّقصِيرِ مَا فِيهِ, وَلَكِن يَكُونُ تَكفِيرُ الذُّنوبِ عَلَى حَسَبِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ اليَّقِينِ وَالاحْتِسَابِ.

((إِيمَانًا وَاحتِسَابًا)) إِيمَانًا بِالذِي شَرَعَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كمَا فِي صَومِ يَومِ عَرَفَة, وَاحتِسَابًا عِندَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلأَجرِ عَلَى المَشَقَّةِ, وَمُخَالَفَةِ العَادَةِ فِي الصِّيَامِ.

وَيَنبَغِي عَلَى الإِنسَانِ أَنْ يَعلَمَ أَنَّهُ مَا صَامَ مَنْ لَمْ يَدَع قَولَ الزُّورِ وَلَا العَمَلَ بِهِ, وَأَنَّ الصِّيَامَ لَيسَ عَن الطَّعَامِ وَالشَّرابِ؛ وَإِنَّمَا الصِّيَامُ عَن اللَّغوِ وَالرَّفَث, فَإِذَا أَمسَكَ عَن مَّا أَحَلَّهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ, وَأَخَذَ فِي أَثنَاءِ صِيَامِهِ عَن مَّا أُحِلَّ لَهُ؛ يَأتِي بمَا حُرَّمَ عَلَيهِ -صَائمًا وَمُفطِرًا- ممَّا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى حَرامًا فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ؛ فَمَا هَذَا بصَائمٍ!!

يَصُومُ عَنِ الحَلالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرابِ وَالشَّهوَةِ وَيُمسِكُ عَن ذَلِك؛ وَيَرتَعُ فِي أَعرَاضِ النَّاسِ, وَيَشتُمُ هَذَا, وَيَسُبُّ هَذَا, وَيَأكُلُ مَالَ هَذَا, وَيَنفَلِتُ لِسَانُهُ بِمَا لَا يَجْمُلُ وَلَا يَحِلُّ, فَأَيُّ صِائمٍ هَذَا؟!!
وَمَا الذِي يُؤَمِّلُهُ مِن تَكفِيرِ ذُنُوبِ سَنَةٍ مَضَتَ أَوْ سَنَةٍ بَقِيَت؟!
إِنَّمَا هَذا يَأتِي بِالوِزرِ؛ لِأَنَّهُ يَأتِي فِي الطَّاعَةِ بمَا يَمحَقُ ثَوابَهَا مَحقًا, وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَرشَدَنَا إِلَى أَنَّ العَبدَ إِذَا صَامَ؛ فَينبَغِي عَلَيهِ أَنْ يَتَحَلَّى بمَكَارَمِ الأَخلَاقِ, وَأَنْ يُمسِكَ عَن اللَّغوِ وَالرَّفَثِ وَمَا دُونَهُمَا, وَإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُل: إِنِّي صَائمٌ, إِنِّي صَائمٌ, فَهَذا فِي رَمَضَانَ وَفِي كُلِّ صَومٍ.
يَنبَغِي عَلَى الإِنسَانِ أَنْ يُخَلِّصَ ذَلِك مِن أَسْرِ نَفسِهِ, وَمِن عَادَاتِهِا وَمِن العُرفِ الذِي يَغلِبُ عَلَيهَا, ومِنَ التَّقَالِيدِ التِي تَحكُمُهَا, وَأَنْ يَرجِعَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا- وَحدَهُ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّومَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).
فَالصَّومُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ خَالِصًا, وَهُوَ يَجزِيِ عَلَيهِ بِأَضعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَبمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ المُسلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمرَ اللهِ, مُتَّبِعًا هَديَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فَلْيَعزِم المَرءُ وَلْيَنوِي أَنْ يَصُومَ يَومَ عَرَفَة -إِنْ لَمْ يَكُن صَائمًا فِي العَشرِ؛ أَنْ يَصُومَ يَومِ عَرَفَة-, وَمَنْ لَمْ يَصُمْ فَيَنبَغِي عَلَيهِ أَلَّا يُفَوِّتَ هَذِهِ الفُرصَةَ العَظِيمَةَ, وَلْيَجتَهِد فِي الدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَة, فِي وَقتِ النُّزولِ الإِلَهِيّ, وَلْيَسأَل اللهَ المَغفِرَةَ, وَلْيَسأَل اللهَ الرَّحمَةَ, وَلْيَسأَل اللهَ جَلَّ وَعَلَا- مَا أَبَاحَهُ مِنَ المَسَائلِ.
لَا يَدعُو بِإِثمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ, وَلَا يَعتِدِي فِي الدُّعَاءِ, وَإِنَّمَا يُقبِلُ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا-, وَيَأخُذُ بِذِكرِ اللهِ فِي يَومِ عَرَفَة كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عِندَمَا قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَه, لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)), فَهَذا خَيرُ مَا يُقَالُ فِي يَومِ عَرَفَة.
وَعَلَى المَرءِ أَنْ يَجتَهِدَ فِي ذَلِكَ اليَومِ, وَفِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ, وَلَكِن فِي هَذَا اليَومِ خَاصَّة؛ لِعَظِيمِ الرَّحَمَاتِ المُتَنَزَّلَاتِ بِهِ كَمَا رَوَت عَائشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَإِنَّهُ تَعَالَى لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِم الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).
فَهَذَا زَمَانُ عِتقٍ مِنَ النَّارِ, فَلْيُعَرِّض المَرءُ نَفسَهُ لِرَحمَةِ رَبِّهِ؛ بِالإِقلَاعِ عَن ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ, وَبِالإِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَحَابِّهِ, وَلَيُقبِل عَلَى قَلبِهِ؛ فَلْيُنَقِّهِ مِن غِشِّهِ, وَلْيُخَلِّصهُ مِن وَزَرِهِ, وَلْيَحمِل عَلَى قَلبِهِ حَتَّى يَستَقِيمَ عَلَى أَمرِ رَبِّه, وَلْيَدعُو اللهَ جَاهِدًا أَنْ يَهدِيَ قَلبَهُ, وَأَنْ يَشرَحَ صَدرَهُ, وَأَنْ يُصلِحَ بَالَهُ, وَأَنْ يُدرِكَ أَمَّةَ مُحَمَّدٍ بِرَحمَةٍ شَامِلَةٍ؛ تَرفَعُ عَنهَا الكَربَ, وَتَكشِفُ عَنهَا الهَمَّ وَالغَمَّ.
فَيَجتَهِدُ الإِنسَانُ فِي هَذَا اليَومِ العَظِيمِ فِي الأَخذِ بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ الكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَرَغَّبَ فِيهِ؛ وَهُوَ الصِّيَامُ, ثُمَّ يَجتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ خَاصَّةً عَشِيَّةَ يَومِ عَرَفَة؛ لِيُصَادِفَ وَقتَ النُّزولِ الإِلَهِيّ مُتَعَرِّضًا لِرَحَمَاتِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا-, عَسَى أَنْ يَرحَمَهُ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِين.
نَسأَلُ اللهَ أَنْ يَجعَلَنَا مِن عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ وَإِخوَانَنَا مِنَ المُسلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الأَرضِ وَمَغارِبَهَا إِنَّهُ هُوَ الجَوادُ الكَرِيمُ وَالبَرُّ الرَّحِيمُ.

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  تحذير الإمام أحمد من بدعة الحاكم ونهيه عن الخروج عليه
  الرد على شبهة وجود قبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مسجده...
  هو الله
  مَاذَا لَوْ قَامَتْ ثَوْرَةٌ فِي مِصْر؟!!
  دفاعًا عن الجيشِ المصريِّ ،حقيقة قناة الجزيرة القطرية
  الحلقة الثالثة: أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث
  رمضان وشياطين الجن والإنس
  ذكرى إعتصام الخوارج
  يعرفون عن الممثلين والمغنيين والمشاهير كل شيء!!
  القدرُ يُؤمنُ به ولا يُحتجُ به
  لحظة تراجع الرسلان عن خطأ أخطأه
  كيف كان يتعامل السلف مع شيوخهم؟
  ملخص لكل ما يخص الأُضحية
  أوصلوا هذه الرسالة إلى القرضاويِّ الضال
  الشيخ رسلان يقسم على إخوانه جميعا في كل مكان أن لا يقبلوا يديه
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان