فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ غَايَاتُهَا وَمَقَاصِدُهَا

فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ غَايَاتُهَا وَمَقَاصِدُهَا

((فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ غَايَاتُهَا وَمَقَاصِدُهَا))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

 ((الْغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ))

فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِنَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَايَةِ أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ، وَنَبَّأَ النَّبِيِّينَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَلِأَجْلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ قَامَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ؛ فَلِأَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِأَجْلِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَانَ هَذَا كُلُّهُ.

التَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَأَوَّلُ أَوَامِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَوَجَّهَ بِهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَوَّلِ أَمْرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].

هَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَأَرْسَلَ لِأَجْلِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ لِأَجْلِهِ الْكُتُبَ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَحَدٍ أَخَلَّ بِهِ عَمَلًا.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

{وَمَا خَلَقْتُ} أَيْ: أَوْجَدْتُ إِيجَادًا مَسْبُوقًا بِالتَّقْدِيرِ.

{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أَيْ: مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَيِّ شَيْءٍ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَعْبُدُونِ}: لِتَعْلِيلِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْخَلْقِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا}: أَيْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}: فِي كُلِّ طَائِفَةٍ، وَقَرْنٍ، وَجِيلٍ مِنَ النَّاسِ {رَسُولًا}: الرَّسُولُ: مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، {أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ}: أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، {وَاجْتَنِبُوا}: وَاتْرُكُوا وَفَارِقُوا {الطَّاغُوتَ}: مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ وَهُوَ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ.

الطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ -كَالْأَصْنَامِ-، أَوْ مَتْبُوعٍ -كَالْكُهَّانِ، وَالسَّحَرَةِ-، أَوْ مُطَاعٍ -كَمَنْ تَوَلَّى أَمْرًا وَأَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ--؛ فَلَا يُنَفَّذُ أَمْرُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَتَنْبَغِي طَاعَتُهُ فِيمَا سِوَاهُ.

قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [الإنسان:36].

بَيَّنَ لنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادَتِهِ.

وَالْعِبَادَةُ: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَأَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَوَصَّى، وَأَوْجَبَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ.

((الْعِبَادَاتُ لَهَا صُوَرٌ ظَاهِرَاتٌ وَأَرْوَاحٌ كَامِنَاتٌ))

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْعِبَادَاتِ صُوَرًا ظَاهِرَاتٍ، وَجَعَلَ لَهَا رُوحًا كَامِنَةً وَرَاءَ تِلْكَ الصُّوَرِ الظَّاهِرَةِ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَقَاصِدَ وَرَاءَ أَشْكَالِ الْعِبَادَاتِ، فَجَعَلَ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ.

وَجَعَلَ ذِكْرَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ مُؤَدِّيًا إِلَى تَحْصِيلِ التَّقْوَى، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنَاسِكَ، وَجَعَلَ مِنْ وَرَائِهَا غَايَاتٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَصِّلَ النَّاسُ مَقَاصِدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِفَرْضِ أَشْكَالِ الْعِبَادَاتِ، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34].

فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا مَذْبَحًا؛ تَتَقَرَّبُ بِالذَّبْحِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا}.

وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعْالَمِينَ الْعِلَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْجَعْلِ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}.

ثُمَّ يَأْتِي مَا يُحَصِّلُهُ الْمَرْءُ الَّذِي آمَنَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَهًا خَالِقًا قَادِرًا مُقْتَدِرًا عَلِيمًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُرِيدًا فَعَّالًا لِمَا يُرِيدُ، {فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}.

كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا وَقَدْ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعْالَمِينَ عَلَيْهَا الصِّيَامَ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

فَلِلْعِبَادَاتِ صُوَرٌ ظَاهِرَاتٌ وَلَهَا أَرْوَاحٌ كَامِنَاتٌ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذَا الرُّوحَ الْكَامِنَ مَحْفُوظًا بِالشَّكْلِ الظَّاهِرِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ لَنَا أَرْوَاحَ الْعِبَادَاتِ مُؤَثِّرَاتٍ فِيمَنْ أَتَى بِظَوَاهِرِهَا عَلَى الْوَجْهِ، فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا بَيَّنَهُ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ مُكَمِّلًا بَعْضُهُ لِبَعْضٍ مُفَسِّرًا بَعْضُهُ لِبَعْضٍ مُعَوِّلًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ مُغْتَرِفًا مِنْ ذَاتِ النَّبْعِ: ((مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْحَجَّ يُحْفَظُ مِنْ وَرَائِهِ تَوْحِيدُ الْخَلْقِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهِ مِنَ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَاتِ مَا يُغَيِّرُ وَجْهَ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ صَانِعُ الصَّنْعَةِ وَهُوَ الَّذِي يَدْرِي بِمَا يَحْفَظُهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ-يَعْنِي: مِنْ دَنَسٍ أَوْ وَسَخٍ-؟)).

قَالُوا: ((لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْء))ٌ.

قَالَ: ((فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا)).

((غَايَةُ التَّوْحِيدِ وَثَمَرَاتُهُ))

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ -دِينُ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ- لَهُ رُكْنَانِ عَظِيمَانِ، مَنْ لَمْ يُحَصِّلْهُمَا؛ فَمَا حَصَّلَ الدِّينَ، وَلَا عَرَفَ الْمِلَّةَ.

لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يُتَابِعُ أَحَدًا سِوَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَهُوَ إِفْرَادٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ، وَتَوْحِيدٌ لَهُ فِي ذَلِكَ.

وَهُوَ تَوْحِيدُ الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ.

وَأَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبْدِ: أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَنْ يَعْبُدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا.

التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ إِفْرَادُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَفْعَالِهِ؛ بِالْمُلْكِ، وَالْخَلْقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَهُوَ مَا يُقَالُ لَهُ :((تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ)).

وَإِفْرَادُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْمُثْلَى، بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَهُوَ: ((تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ)).

وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَفْعَالِ الْعَبْدِ؛ عِبَادَةً للهِ، وَتَقَرُّبًا وَتَزَلُّفًا لَدَيْهِ، وَهُوَ ((تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ))، يَجْمَعُهُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

وَمَبْنَى التَّوْحِيدِ عَلَى رُكْنَيْنِ، لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِهِمَا، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُوَحِّدًا، لَا بُدَّ مِنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكْفُرَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ دُونَ اللهِ، وَهُوَ نَفْيٌ لِلشِّرْكِ جُمْلَةً، وَهَذَا مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.

وَكُلُّ مَعْبُودٍ دُونَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّمَا هُوَ مَعْبُودٌ بِبَاطِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مَنْ لَهُ كَمَالُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكَمَالُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَالَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ كُلِّ شَيْءٍ، وُهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْعَدَمِ، وَالَّذِي يُمِيتُ مَتَى شَاءَ، وَالَّذِي يَرْزُقُ وَحْدَهُ، تَفَرَّدَ بِالرِّزْقِ لَا رَازِقَ مَعَهُ، وَالَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

الَّذِى يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ هُوَ الرَّبُّ الْكَامِلُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، الْكَامِلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الْعِبَادَةِ كُلِّهَا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): النَّفْيُ نَفْيٌ لِلشِّرْكِ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَإِثْبَاتُ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْحِيدٌ إِلَّا مَعَ الْكُفْرِ بِكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256].

وَأَمَّا شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَمَبْنَاهَا -أَيْضًا- عَلَى رُكْنَيْنِ: عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَنَّهُ لَا تُقَدَّمُ مُتَابَعَةٌ لِأَحَدٍ قَبْلَ مُتَابَعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): إِثْبَاتُ الْعِبَادَةِ للهِ، مَعَ نَفْيِ الشِّرْكِ.

((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)): إِثْبَاتُ الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، مَعَ نَفْيِ الْبِدْعَةِ.

إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَعَثَ رَسُولَهُ ﷺ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِهِ، بَعَثَهُمْ جَمِيعًا بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِتَكُونَ الْعِبَادَةُ للهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ.

وَكُلُّهُمْ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَالرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

لَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا، وَتَحْقِيقِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِيهَا.

بَالتَّوحِيدِ يُقْبَلُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنْ غَيْرِ التَّوْحِيدِ لَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 56].

فَقَبُولُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّوْحِيدِ.

التَّوْحِيدُ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}: أَيْ بِشِرْكٍ {أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

بِالتَّوْحِيدِ تَكُونُ الْعِزَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَتَكُونُ عِزَّةُ الْمَرْءِ فِي الْآخِرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 139].

فَالْعِزَّةُ وَالنَّصْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً لَا يَتَحَقَّقَانِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.

إِنَّ التَّوْحِيدَ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ؛ لِيَكُونَ عَبْدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

فَالتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ الصَّافِي يُحَرِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ؛ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْآلِهَةِ الْمُدَّعَاةِ الْبَاطِلَةِ.

التَّوْحِيدُ يُحَرِّرُ عَقْلَهُ -كَمَا حَرَّرَ قَلْبَهُ- يُحَرِّرُ عَقْلَهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ، مِنَ التُّرَّهَاتِ، مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ، حَتَّى لَا يَخَافَ إِلَّا مِنَ اللهِ، وَلَا يَرْجُوَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَأَفْضَالِهِ.

وَأَعْظَمُ ثَمَرَةٍ مِنْ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ: دُخُولُ الْجَنَّةِ؛ فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مُوَحِّدٌ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا إِذَا حَقَّقُوا الْغَرَضَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِذَا لَمْ يُحَقِّقُوهُ تَمَزَّقَتْ نُفُوسُهُمْ.

الشِّرْكُ يُمَزِّقُ وَحْدَةَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ.

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163].

الْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].

فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.

إِنَّ خَلَاصَنَا وَنَجَاتَنَا أَفْرَادًا وَأُمَّةً، إِنَّمَا هُوَ بِتَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلَا تَخْلُصُ النَّفْسُ مِنْ أَوْهَامِهَا وَخُرَافَاتِهَا، وَلَا مِنْ خَلَقِهَا وَتَوَتُّرِهَا وَاضْطِرَابِهَا، وَلَا تَخْلُصُ النَّفْسُ مِنْ رَجَائِهَا سِوَى مَوْلَاهَا، وَاتِّكَالِهَا عَلَى غَيْرِهِ، إِلَّا بِتَوْحِيدِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، حَتَّى يَكُونَ الْمَرْءُ عَابِدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((مِنْ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ وَثَمَرَاتِهَا))

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعِبَادَاتِ مَقَاصِدَ وَغَايَاتٍ، وَحِكَمًا وَأَسْرَارًا، وَالصَّلَاةُ هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ:

*أَنَّهَا ذِكْرٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَهَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَرَّبَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَجِيًّا, وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَا افْتَرضَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ افْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ عِبَادَتَهِ: إِقَامُ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى فَرِيضَةٍ سِوَاهَا، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُخَاطِبًا مُوسَى بِكَلِمَاتِهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [هود: 13-14].

(({وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} أَيْ: تَخَيَّرْتُكَ وَاصْطَفَيْتُكَ مِنَ النَّاسِ، وَهَذِهِ أَكْبَرُ نِعْمَةٍ وَمِنَّةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ تَقْتَضِي مِنَ الشُّكْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أَيْ: أَلْقِ سَمْعَكَ لِلَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ فَإِنَّهُ حَقِيقٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الدِّينِ وَمَبْدَأَهُ، وَعِمَادُ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

ثُمَّ بَيَّنَ الَّذِي يُوحِيهِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} أَيِ: اللَّهُ الْمُسْتَحَقُّ الْأُلُوهِيَّةَ الْمُتَّصَفَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، الْمُنْفَرِدُ بِأَفْعَالِهِ، الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مَثِيلَ وَلَا كُفُوَ وَلَا سُمِيَّ؛ {فَاعْبُدْنِي} بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، ثُمَّ خَصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْعِبَادَةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا، وَتَضَمُّنِهَا عُبُودِيَّةَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ.

وَقَوْلُهُ: {لِذِكْرِي}: اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذِكْرِكَ إِيَّايَ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ -تَعَالَى- أَجَلُّ الْمَقَاصِدِ، وَبِهِ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ، وَبِهِ سَعَادَتُهُ، فَالْقَلْبُ الْمُعَطَّلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مُعَطَّلٌ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقَدْ خَرِبَ كُلَّ الْخَرَابِ، فَشَرَعَ اللَّهٌ لِلْعِبَادِ أَنْوَاعَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِقَامَةُ ذِكْرِهِ، وَخُصُوصًا الصَّلَاةَ؛ قَالَ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَيْ: مَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ نَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَهَذَا النَّوْعُ يُقَالُ لَهُ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ، فَالْأُلُوهِيَّةُ وَصْفُهُ -تَعَالَى-، وَالْعُبُودِيَّةُ وَصْفُ عَبْدِهِ)).

وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا صِلَةٌ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَرَبِّهِ؛ فَالْمُصَلِّي إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ؛ اسْتَقْبَلَهُ اللهُ بِوَجْهِهِ، ((فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي-.

فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}؛ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

فَهَلْ تَجِدُ صِلَةً أَقْوَى مِنْ تِلْكَ الصِّلَةِ؟!!

يُجِيبُكَ رَبُّكَ عَلَى قِرَاءَتِكَ آيَةً آيَةً وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَأَنْتَ فِي أَرْضِهِ؛ عِنَايَةً بِصَلَاتِكَ، وَتَحْقِيقًا لِصَلَاتِكَ!!

* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّ بِهَا قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، وَرَاحَةَ النَّفْسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي (سُنَنِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَكَانَ يَقُولُ: ((قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَنَصُّهُ عِنْدَهُ: ((يَا بِلَالُ! أَقِمِ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَبِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَصِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقُومُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا ذَلِيلًا، يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَسْأَلُهُ حَاجَاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ فَالصَّلَاةُ رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا صَلَّاهَا الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].

وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ بِالصَّلَاةِ؛ مِنْ إِنَابَةٍ إِلَى اللهِ، وَحُضُورٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُوَّةٍ فِي الْإِيمَانِ، وَاسْتِنَارَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَصَلَاحٍ فِي الْأَحْوَالِ، فَلَا يَزَالُ طَعْمُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، وَكُلَّمَا هَمَّ بِمُنْكَرٍ أَوْ فَحْشَاءَ؛ تَذَكَّرَ تِلْكَ الصِّلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَابْتَعَدَ عَنْ ذَلِكَ.

* وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: مَا يَحْصُلُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَحُصُولِ التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ بَيْنَهُمْ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ، وَتَنْبِيهِ الْغَافِلِ، وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ.

* وَلِلصَّلَاةِ كَثِيرٌ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الصَّلَاةِ: أَنَّهَا سَبَبٌ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ في الشِّتَاءِ وَالْوَرَقُ يَتَهَافَتُ، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ شَجَرَةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ ذَلِكَ الْوَرَقُ يَتَهَافَتُ, فَقَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ!)).

قُلْتُ: ((لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ)).

قَالَ: ((إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَتَهَافَتُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَهَافَتُ هَذَا الْوَرَقُ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

وعَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبي طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَو قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلى اللهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ )).

فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ للهِ؛ فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ للهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ بِهَا عَنْكَ خَطِيئَةً)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ للهِ سَجْدَةً؛ إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً؛ فَاسْتَكْثِرُوا مِنَ السُّجُودِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَهُو سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ فَلْيَسْتَكْثِرْ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بِقَبْرٍ، فَقَالَ: ((مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟)).

فَقَالُوا: ((فُلَانٌ)).

فَقَالَ: ((رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ))؛ يَعْنِي: إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ.

رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.        

وَعَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: ((قَعَدْتُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَجَعَلَ يُصَلِّي ويَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، لَا يَقْعُدُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا أَرَى هَذَا يَدْرِي.. يَنْصَرِفُ عَلَى شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ!!

فَقَالُوا: أَلَا تَقُومُ إِلَيْهِ فَتَقُولُ لَهُ؟

قَالَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ! مَا أَرَاكَ تَدْرِي.. تَنْصَرِفُ عَلَى شَفْعٍ أَو عَلَى وَتْرٍ!!

قَالَ: وَلَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ سَجْدَةً؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً)).

فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟

فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي.

فَقُلْتُ: جَزَاكُمُ اللهُ مِنْ جُلَسَاءَ شَرًّا، أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُعَلِّمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ)).

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ, ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ, وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَبِوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا؛ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ خُدَّامَ أَنْفُسِنَا، نَتَنَاوَبُ الرِّعَايَةَ -رِعَايَةَ إِبِلِنَا-، فَكَانَتْ عَلَيَّ رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَرَوَّحْتُهَا بِالْعَشِيِّ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ, ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ؛ إِلَّا قَدْ أَوْجَبَ -أَيْ: أَتَى بِمَا يُوجِبُ لَهُ الْجَنَّةَ-)).

فَقُلْتُ: بَخٍ بَخٍ, مَا أَجْوَدَ هَذِهِ!!

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ, وَابْنُ مَاجَه، وَغَيْرُهُمْ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ, ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ؛ إِلَّا انْفَتَلَ وَهُوَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). الْحَدِيثَ. وَقَالَ: ((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)).

وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ, فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا؛ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ, وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)).

وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ؛ كَانَ لَهُ عَلَى اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ)).

* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا عَوْنٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ؛ صَلَّى))؛ أَيْ: أَهَمَّهُ أَمْرٌ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

* وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: مَا رَتَّبَ اللهُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ؛ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ))، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَالنَّسَائِيُّ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّلَاةُ نُورٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

يَعْنِي: نُورٌ فِي الْقَلْبِ، وَالْوَجْهِ، وَالْقَبْرِ، وَالْحَشْرِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَقَالَ: ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا؛ كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ, وَلا بُرْهَانٌ, وَلا نَجَاةٌ, وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ, وَفِرْعَوْنَ, وَهَامَانَ, وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ في ((مُسْنَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو))، لَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، وَقَدْ حَسَّنَ هَذَا الْحَدِيثَ مُحَقِّقِي الْمُسْنَدِ، وَكَذَلِكَ جَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَلَكِنْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ.

فَمَنْ حَافَظَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ، وَأَدَّاهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ؛ كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

* وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: أَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَتَطْهِيرٌ مِنَ الْخَطَايَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟))

قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ.

قَالَ: ((فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ؛ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَهَذِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ تَغْسِلُ الذُّنُوبَ لِمَنْ صَلَّى غَسْلًا، فَيَكُونُ نَقِيًّا بِهَا مِنَ الذُّنُوبِ.

((مِنْ مَقَاصِدِ الزَّكَاةِ وَفَوَائِدِهَا))

عِبَادَ اللهِ! الزَّكاةُ هِيَ أَهَمُّ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ أَهَمُّ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقْرِنُ الزَّكَاةَ بِالصَّلَاةِ كَثِيرًا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110].

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ-: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَـامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَـوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ لِمَنْ استطاع إليه سبيلًا».

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا».

فَالصَّلَاةُ أَهَمُّ رُكْنٍ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالزَّكَاةُ أَهَمُّ رُكْنٍ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الصَّلَاةِ.

وَلِلزَّكَاةِ أَهَمِّيَّةٌ عُظْمَى فِي الْإِسْلَامِ, وَلِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِهَا تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا, وَهَذِهِ بَعْضُ حِكَمِ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ:

1ـ تَطْهِيرُ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالشَّرَهِ وَالطَّمَعِ.

2ـ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ, وَسَدُّ حَاجَاتِ الْمُعْوِزِينَ وَالْبُؤَسَاءِ وَالْمَحْرُومِينَ.

3ـ إِقَامَةُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الْأُمَّةِ وَسَعَادَتُهَا.

4ـ الْحَدُّ مِنْ تَضَخُّمِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ, وَبِأَيْدِي التُّجَّارِ وَالْمُحْتَرِفِينَ، كَيْ لَا تُحْصَرَ الْأَمْوَالُ فِي طَائِفَةٍ مَحْدُودَةٍ أَوْ تَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ.

مِنْ حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ:

5ـ أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ؛ يَعْطِفُ فِيهَا الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِرِ.

6ـ وَأَنَّهَا تُطْفِئُ حَرَارَةَ ثَوْرَةِ الْفُقَرَاءِ وَحِقْدَهُمْ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ.

7ـ وَتَمْنَعُ الْجَرَائِمَ الْمَالِيَّةَ كَالسَّرِقَاتِ وَالنَّهْبِ وَالرِّشْوَةِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالسَّطْوِ.

8ـ وَتُزَكِّي الْمَالَ -أَيْ: تُنَمِّيهِ-.

9ـ وَهِيَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْخَيْرَاتِ.

وَفَوَائِدُ الزَّكَاةِ الَّتِي تَبْدُو لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ النَّظَرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَمَا بَيَّنَهَا عُلَمَاؤُنَا:

فَأُولَى فَوَائِدِهَا: إِتْمَامُ إِسْلَامِ الْعَبْدِ وَإِكْمَالِهِ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا الْإِنْسَانُ تَمَّ إِسْلَامُهُ وَكَمُلَ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ غَايَةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ؛ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٍ يَسْعَى لِإِكْمَالِ دِينِهِ.

الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِ الْمُزَكِّي، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ لِلنُّفُوسِ، وَالْمَحْبُوبُ لَا يُبْذلُ إِلَّا ابْتِغَاءَ مَحْبُوبٍ مِثْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ، بَلْ ابْتِغَاءَ مَحْبُوبٍ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ صَدَقَةً،؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ طَلَبِ صَاحِبِهَا لِرِضَا اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

الثَّالِثَةُ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّهَا تُزَكِّي أَخْلَاقَ الْمُزَكِّي، فَتَنْتَشِلُهُ مِنْ زُمْرَةِ الْبُخَلَاءِ الْأَشِحَّاءِ، وَتُدْخِلُهُ فِي زُمْرَةِ الْبَاذِلِينَ الْكُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَوَّدَ نَفْسَهُ عَلَى الْبَذْلِ، سَوَاءٌ عَلَى بَذْلِ الْعِلْمِ أَوْ بَذْلِ الْمَالِ أَوْ بَذْلِ الْجَاهِ؛ صَارَ ذَلِكَ الْبَذْلُ سَجِيَّةً لَهُ وَطَبِيعَةً فِيهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَكَدَّرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَدْ بَذَلَ مَا اعْتَادَهُ؛ كَصَاحِبِ الصَّيْدِ الَّذِي اعْتَادَ الصَّيْدَ، تَجِدُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مُتَأَخـِّرًا عَنِ الصَّيْدِ؛ تَجِدُهُ ضَيِّقَ الصَّدْرِ، وَكَذَلِكَ الَّذِي عَوَّدَ نَفْسَهُ عَلَى الْكَرَمِ، يَضِيقُ صَدْرُهُ إِذَا فَاتَ يَوْمٌ مِنَ الْأَيَّامِ لَمْ يَبْذُلْ فِيهِ مَالَهُ أَوْ جَاهَهُ وَعِلْمَهُ.

الرَّابِعَةُ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّهَا تَشْرَحُ الصَّدْرَ؛ فَالْإِنْسَانُ إِذَا بَذَلَ الشَّيْءَ لِاسِيَّمَا الْمَالُ، يَجِدُ فِي نَفْسِهِ انْشِرَاحًا، وَهَذَا شَيْءٌ مُجَرَّبٌ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُـونَ بَذْلُهُ بِسَخَاءٍ وَطِيبِ نَفْسٍ، لَا أَنْ يَكُونَ بَذْلُهُ وَقَلبُهُ تَابِعٌ لَهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي «الزَّادِ»: «أَنَّ الْبَذْلَ وَالْكَرَمَ مِنْ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، لَكِنْ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ إِلَّا الَّذِي يُعْطِي بِسَخَاءٍ وَطِيبِ نَفْسٍ، وَيُخْرِجُ الْمَالَ مِنْ قَلْبِهِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ، أَمَّا مَنْ أَخْرَجَ الْمَالَ مِنْ يَدِهِ لَكِنَّهُ فِي قَرَارَةِ قَلْبِهِ، فَلَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذَا الْبَذْلِ)).

مِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ:

الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ عَيْشًا وَقَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ، أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ هَمًّا وَغَمًّا.

وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَثَلًا لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، «كَمَثَلِ رَجُليْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ؛ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ، حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ». أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ الْمُتَصَدِّقِ وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ، وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ.

الْخَامِسَةُ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الزَّكَاةَ تُلْحِقُ الْإِنْسَانَ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ، «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

فَكَمَا أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ يُبْذَلَ لَكَ الْمَالُ الَّذِي تَسُدُّ بِهِ حَاجَتَكَ، فَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُعْطِيَهُ أَخَاكَ، فَتَكُونُ بِذَلِكَ كَامِلَ الْإِيمَانِ.

السَّادِسَةُ: أَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَاكِمُ؛ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَكُلُّنَا يَسْعَى إِلَى دُخُولِ الْجَنَّة.

السَّادِسَةُ: النَّجَاةُ مِنْ حَرِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ الْقُبُورِ، وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُّ الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ». أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ»، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: «رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ». أَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

السَّابِعَةُ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّهَا تُلْجِئُ الْإِنْسَانَ إِلَى مَعْرِفَةِ حُدُودِ اللهِ وَشَرَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ أَحْكَامَهَا وَأَمْوَالَهَا، أَنْصِبَاءَهَا وَمُسْتَحِقِّيهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى تَعَلُّمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.

الثَّامِنَةُ: أَنَّهَا تُزَكِّي الْمَالَ؛ يَعْنِي تُنَمِّي الْمَالَ حِسًّا وَمَعْنًى؛ فَإِذَا تَصَدَّقَ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ يَقِيهِ الْآفَاتِ، وَرُبَّمَا يَفْتَحُ اللهُ لَهُ زِيَادَةَ رِزْقٍ بِسَبَبِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ».

وَهَذَا شَيْءٌ مُشَاهَدٌ؛ أَنَّ الْإِنْسَانَ الْبَخِيلَ رُبَّمَا يُسَلَّطُ عَلَى مَالِهِ، وَقَدْ يُسَلِّطُ اللهُ عَلَى مَالِهِ مَا يَقْضِي عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهِ؛ بِاحْتِرَاقِهِ أَوْ خَسَائِرَ كَثِيرَةٍ أَوْ أَمْرَاضٍ تُلْجِئُهُ إِلَى الْعِلَاجَاتِ الَّتِي تَسْتَنْزِفُ مِنْهُ أَمْوَالًا طَائِلَةً.

التَّاسِعَةُ: أَنَّ الزَّكَاةَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْخَيْرَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مَنَعَ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه».

وَهُنَالِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِعَقِبِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا».

الْعَاشِرَةُ: أَنَّ الصَّدَقَةَ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ». أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا -يَعْنِي الزَّكَاةَ- تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ». أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهَا تُكَفِّــرُ الْخَطَايَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه؛ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

مِنْ فَوَائِدِ الزَّكَاةِ: أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، يُضْفِي فِيهِ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِر، فَتُصْبِحُ حِينَئِذٍ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً، وَيُصْبِحُ الْإِنْسَانُ يَشْعَرُ بِأَنَّ لَهُ إِخْوَةً يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ} [القصص: 77]، فَتُصْبِحُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَكَأَنَّهَا أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مَا يُعْرَفُ عِنْدَ الْمُعَاصِرِينَ بِالتَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.

وَالزَّكَاةُ هِيَ خَيْرُ مَا يَكُونُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤَدِّي بِهَا فَرِيضَةً وَيَنْفَعُ إِخْوَانَهُ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ وَفَوَائِدِهَا: أَنَّ الزَّكَاةَ تُطْفِئُ حَرَارَةَ ثَوْرَةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَغِيظُهُ أَنْ يَجِدَ هَذَا الرَّجُلَ يَرْكَبُ مَا شَاءَ مِنَ الْمَرَاكِبِ، وَيَسْكُنُ مَا شَاءَ مِنْ الْقُصُورِ، وَيَأْكُلُ مَا يَشْتَهِي مِنَ الطَّعَامِ.

وَأَمَّا هَذَا الْفَقِيرُ؛ فَلَا يَرْكَبُ إِلَّا رِجْلَيْهِ، وَلَا يَنَامُ إِلَّا عَلَى الْأَسْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ؛ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، فَإِذَا جَادَ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ كَسَرُوا ثَوْرَتَهُمْ، وَهَدَّأُوا غَضْبَتَهُمْ، وَقَالُوا لَنَا إِخْوَةٌ يَعْرِفُونَنَا فِي الشِّدَّةِ، فَيَأْلَفُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيُحِبُّونَهُمْ.

وَمِنْ ثَمَرَاتِ الزَّكَاةِ: أَنَّهَا تَمْنَعُ الْجَرَائِمَ الْمَالِيَّةَ، كَالسَّرِقَاتِ وَالنَّهْبِ وَالسَّطْوِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَأْتِيهِمْ مَا يَسُدُّ شَيْئًا مِنْ حَاجَتِهِمْ، وَيَعْذِرُونَ الْأَغْنِيَاءَ لِكَوْنِهِمْ يُعْطُونَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ، يُعْطُونَ رُبُوعَ الْعُشْرِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ.

وَفِي الْمَوَاشِي يُعْطُونَهُمْ نِسْبَةً كَبِيرَةً، فَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ إِلَيْهِمْ فَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ.

الزَّكَاةُ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ، الَّذِي جَاءَ بِالْمُسَاوَاةِ، وَالتَّرَاحُمِ، وَالتَّعَاطُفِ، وَالتَّعَاوُنِ، وَقَطْعِ دَابِرِ كُلِّ شَرٍّ يُهَدِّدُ الْفَضِيلَةَ وَالْأَمْنَ وَالرَّخَاءَ، إِلَى غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْبَقَاءِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُزَكِّي وَالْمُزَكَّى عَلَيْهِ وَلِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ.

فَهِيَ تُطَهِّرُ الْمُزَكِّيَ وَتُنَمِّيَ مَالَهُ، وَتَنْزِلُ بِسَبَبِهَا الْبَرَكَةُ فِيهِ، وَيَنْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا الْمُسْلِمِينَ.

فَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ طُهْرَةً  لِصَاحِبِهَا مِنْ رَذِائِلَ نَفْسِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَتَنْمِيَةً حِسِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً مِنْ آفَةِ النَّقْصِ، وَجَعَلَهَا رَبُّنَا مُسَاوَاةً بَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَخَوَّلَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَجَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِعَانَةٍ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ لِإِخْوَانِهِمُ الْفُقَرَاءَ، الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا يُقِيمُ أَوْدَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى عَمَلٍ.

جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّكَاةِ تَحْقِيقًا لِلسَّلَامِ وَالْأَمْنِ، الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ بِوُجُودِ طَائِفَةٍ جَائِعَةٍ تَرَى الْمَالَ وهي مَحْرُومَةٌ مِنْهُ، وَجَعَلَهَا اللهُ تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ، وَجَمْعًا لِلْكَلِمَةِ؛ يَجُودُ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنَصِيبٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِسَبَبِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، فَيُؤْتِيهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَحَبَّةَ، وَيَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ مُجْتَمَعًا مُتَوَادًّا مُتَحَابًّا، لَا حِقْدَ فِيهِ وَلَا أَثَرَةَ.

هَذِهِ الْفَرِيضَةُ الْكَرِيمَةُ من فرائض الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تُعْلِمُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ  الْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، الَّذِي يَكْفُلُ لِلْفَقِيرِ الْعَاجِزِ الْعَيْشَ الْكَرِيمَ  وَالْقُوتَ الْحَلَالَ، وَتَجْعَلُ لِلْغَنِيِّ الْقَادِرِ مَزِيَّةَ التَّمَلُّكِ مُقَابِلَ سَعْيِهِ وَبَذْلِهِ وَمَجْهُودِهِ.

((مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدِهِ))

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَعَلَ لِلصِّيَامِ فَوَائِدَ عَظِيمَةً، وَمُمَيِّزَاتٍ جَزِيلَةً، يَنَالُ الْمُسْلِمُ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- إِذَا مَا أَتَى بِهَا الرِّضْوَانَ عِنْدَ اللهِ، مِنْ ذَلِكَ:

*أَنَّ التَّقْوَى ثَمَرَةُ الصَّوْمِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ؛ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].

أَيْ: فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضْنَاهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، لَعَلَّكُمْ بِأَدَائِكُمْ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ تَنَالُونَ دَرَجَةَ التَّقْوَى، الَّتِي هِيَ أَسْمَى الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَاهَا، وَأَرْفَعُ الْمَنَازِلِ وَأَفْخَمُهَا، وَبِذَلِكَ تَكُونُونَ مِمَّنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عليمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

وَالتَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ.

وَالصِّيَامُ الَّذِي لَا يُثْمِرُ التَّقْوَى حَابِطٌ فَاقِدُ الْقِيمَةِ؛ كَالزَّرْعِ الَّذِي لَا مَحْصُولَ لَهُ آخِرَ الْمَوْسِمِ.

فَوَا أَسَفَاهُ! فِيمَ كَانَ -إِذَنْ- حَرْثُ الْأَرْضِ، وَالسَّقْيُ، وَالتَّسْمِيدُ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ، وَطُولُ الضَّنَا، وَاحْتِمَالُ الْعَنَا؟!!

*إِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ بِهَذَا الْفَرْضِ الْعَظِيمِ -كَمَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-؛ حَقَّقَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَأَتَى بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

*الْإِنْسَانُ إِذَا صَامَ صِيَامًا صَحِيحًا؛ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.

مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ: كَقَوْلِ الزُّورِ، وَالْعَمَلِ بِهِ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) : ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).

وَالْإِنْسَانُ يَدَعُ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِعَارِضِ الصَّوْمِ، فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا عَارِضًا، وَهِيَ مَا أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَتْرُكُ الشَّهَوَاتِ؛ كَالْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ، وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْمُحَرَّمَاتِ.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاقِبَ ذَلِكَ فِي الْوَسَائِلِ الَّتِي جَدَّتْ فِي الْحَيَاةِ الْمُعَاصِرَةِ؛ كَالْهَاتِفِ النَّقَّالِ، وَكَمَا يَكُونُ فِي الْمِذْيَاعِ، وَفِي التِّلْفَازِ، وَفِي الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، يُكِبُّونَ عَلَيْهَا كَمَا يُكِبُّ الْعَابِدُ عَلَى صَنَمِهِ!!

وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْهُمْ تَقْوَاهُمْ، وَتَسْتَلِبُ مِنْهُمْ إِيمَانَهُمْ، وَتُعَلِّمُهُمُ الْكَذِبَ، وَالنِّفَاقَ، وَالْخِدَاعَ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي جَدَّتْ؛ فَإِنَّهَا -بِلَا شَكٍّ- تُؤَثِّرُ فِي حَيَاتِهِ؛ فَضْلًا عَنْ تَأْثِيرِهَا فِي صِيَامِهِ.

*وَالنَّاسُ إِذَا صَامُوا الشَّهْرَ؛ اجْتَمَعُوا جَمِيعًا كَأُمَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ يَأْكُلُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيَصُومُونَ مُمْسِكِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

*وَيَشْعُرُ الْغَنِيُّ بِنِعْمَةِ اللهِ، فَيَعْطِفُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَيُقَلِّلُ مِنْ مَزَالِقِ وَوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ .

*وَشَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الصَّوْمِ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، فَفِي رَمَضَانَ صَبْرٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ الصَّبْرِ يَأْتِي الْأَجْرُ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

*وَتَأْتِي مَغْفِرَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلصَّائِمِينَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

*وَالصَّوْمُ يَمْنَعُ مِنْ غِشْيَانِ الرَّذَائِلِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ - وَالْجُنَّةُ: الْوِقَايَةُ- فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ؛ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ -مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ-)).

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْعِبَادَاتِ مَقَاصِدَ، وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا بَعْضَ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَالْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يَأْتِي بِالْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَأْتِي بِهَا مُمْتَثِلًا، مُحْتَسِبًا الْمَشَقَّةَ الَّتِي يُلَاقِيهَا وَالْعَنَتَ، كَمَا يَكُونُ فِي الصِّيَامِ إِذَا أَتَى فِي أَيَّامِ الْحَرِّ؛ فَعَلَى الظَّمَأِ وَشِدَّةِ الْعَطَشِ، وَعَلَى الْمُعَانَاةِ فِيهِ، عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ يَكُونُ الْأَجْرُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، عَلِمْنَا مِنْهَا مَا عَلِمْنَا، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِالْإِتْيَانِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الْمَعْنَى، بِمَعْنَى أَنَّنَا نَتَعَبَّدُ بِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا نَبْحَثُ عَنِ الْعِلَلِ.

لَا نَقُولُ: لِمَ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ خَمْسًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟

لِمَ لَمْ تَكُنْ زِيَادَةً عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؟

فَالْحِكْمَةُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَرَضَ ذَلِكَ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَغْيِيرِ سُلُوكِهِ، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نُفَتِّشَ فِي قُلُوبِنَا، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ الْأَعْظَمُ.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْآفَاتِ الَّتِي تُمَازِجُ الْقُلُوبَ وَتُخَالِطُ الْأَرْوَاحَ، حَتَّى يُخَلِّصَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ مَهْمَا كَثُرَ مَعَ هَذَا الشَّوْبِ لَا يُتَقَبَّلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَمَلُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقٍ؛ تَقَبَّلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

((فَضَائِلُ الْحَجِّ وَحِكَمُهُ وَمَقَاصِدُهُ))

الْحَجُّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَفَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ -تَعَالَى-، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ.

لِلْحَجِّ فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ بَيَّنَتْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ:

1- أَنَّهُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْكُفْرِ وَسَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي:

وَدَلِيلُ ذَلِكَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلَأُبَايِعُكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ.

قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي.

قَالَ: ((مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟))

قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.

قَالَ: ((تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟))

قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.

قَالَ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

2- وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ -أَيْضًا-: أَنَّ الْحَاجَّ يَعُودُ مِنْ حَجِّهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

3- وَمِنْ فَضَائِلِ الْحَجِّ: أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْجِهَادِ وَهُوَ أَفْضْلُهَا:

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ؛ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟

قَالَ: ((لَا، وَلَكِنْ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

4- وَمِنْ فَوَاضِلِ الْحَجِّ وَفَضَائِلِهِ: الْفَوْزُ بِأَعْلَى الْمَطَالِبِ وَهِيَ الْجَنَّةُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلِلْحَجِّ أَهْدَافُهُ الْعَظِيمَةُ، فَمِنْهَا:

1- الْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.

2- وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ أَنَّ فِيهِ ارْتِبَاطًا بِرُوحِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ الدِّيَارَ الْمُقَدَّسَةَ هِيَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَكُلَّمَا ارْتْبَطَ الْمُسْلِمُونَ بِتِلْكَ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَبَلَّغُوا شَرْعَهُ.

3- وَفِي الْحَجِّ إِعْلَانٌ عَمَلِيٌّ لِمَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا مَوْقِفًا وَاحِدًا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ فِي أَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا.

4- وَمِنْ أَهْدَافِ الْحَجِّ أَنَّهُ تَوْثِيقٌ لِمَبْدَأِ التَّعَارُفِ وَالتَّعَاوُنِ؛ حَيْثُ يَقْوَى التَّعَارُفُ، وَيَتِمُّ التَّشَاوُرُ، وَيَحْصُلُ تَبَادُلُ الْآرَاءِ، وَذَلِكَ بِالنُّهُوضِ بِالْأُمَّةِ وَرَفْعِ مَكَانَتِهَا الْقِيَادِيَّةِ بَيْنَ الْأُمَمِ.

وَالْحَجُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكَلَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَبَيَانِ أَسْرَارِ فَرْضِيَّتِهَا:

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيَّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا الْحَجُّ فَشَأْنٌ آخَرُ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْحُنَفَاءُ الَّذِينَ ضَرَبُوا فِي الْمَحَبَّةِ بِسَهْمٍ، وَشَأْنُهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهِ الْعِبَارَةُ، وَهُوَ خَاصَّةُ هَذَا الدِّينِ الْحَنِيفِ، وَمَعُونَةُ الصَّلَاةِ، وَسِرُّ قَوْلِ الْعَبْدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، فَإِنَّهُ مُؤَسَّسٌ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَالْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ، وَهُوَ اسْتِزَارَةُ الْمَحْبُوبِ لِأَحِبَّائِهِ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى بَيْتِهِ، وَمَحَلُّ كَرَامَتِهِ، وَلِهَذَا إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ؛ فَشِعَارُهُمْ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) إِجَابَةُ مُحِبٍّ لِدَعْوَةِ حَبِيبِهِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ مَوْقِعٌ عِنْدَ اللهِ، وَكُلَّمَا أَكْثَرَ الْعَبْدُ مِنْهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَبِّهِ وَأَحْظَى عِنْدَهُ، فَهُوَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ حَتَّى يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ.

وَسَائِرُ شَعَائِرِ الْحَجِّ مِمَّا شَهِدَتْ بِحُسْنِهِ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَعَلِمَتْ أَنَّ الَّذِي شَرَعَ هَذِهِ لَا حِكْمَةَ فَوْقَ حِكْمَتِهِ)).

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((إِنَّ الْحَاجَّ يَتَذَكَّرُ بِتَحْصِيلِ الزَّادِ زَادَ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ فَاسِدَةً بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَلَا تَصْحَبُهُ وَلَا تَنْفَعُهُ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي يَفْسُدُ فِي أَوَّلِ مَنَازِلِ السَّفَرِ، فَيَبْقَى صَاحِبُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ مُتَحَيِّرًا، وَإِذَا فَارَقَ الْحَاجُّ وَطَنَهُ، وَدَخَلَ الْبَادِيَةَ، وَشَهِدَ تِلْكَ الْعَقَبَاتِ وَالصِّعَابَ وَالشَّدَائِدَ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ خُرُوجَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ إِلَى مِيقَاتِ الْقِيَامَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَهْوَالِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَتَذَكَّرَ وَقْتَ إِحْرَامِهِ وَتَجَرُّدِهِ مِنْ ثِيَابِهِ أَنَّهُ يَلْبَسُ كَفَنَهُ، وَأَنَّهُ سَيَلْقَى رَبَّهُ بِزِيٍّ مُخَالِفٍ لِزِيِّ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يَأْتِي رَبَّهُ مُتَجَرِّدًا مِنَ الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا وَغُرُورِهَا، مَا مَعَهُ إِلَّا عَمَلُهُ؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.

وَإِذَا لَبَّى فَلْيَسْتَحْضِرْ بِتَلْبِيَتِهِ إِجَابَةَ اللهِ تَعَالَى إِذْ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، وَلْيَرْجُ الْقَبُولَ، وَلْيَخْشَ عَدَمَ الْإِجَابَةِ، وَلْيَتَذَكَّرَ خَيْرَ مَنْ لَبَّى وَأَجَابَ النِّدَاءَ، مُحَمَّدًا ﷺ وَصَحَابَتَهُ الْكِرَامَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-، وَلْيَعْزِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاقْتِفَاءِ سُنَّتِهِ، وَاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ.

وَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَرَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجُوَ الْأَمْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَنْ يَخْشَى أَلَّا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبِ عِنْدَ اللهِ، مُعَظِّمًا رَجَاءَهُ فِي رَبِّهِ، مُحْسِنًا ظَنَّهُ بِهِ، فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ الْحَرَامَ اسْتَحْضَرَ عَظَمَةَ اللهِ فِي قَلْبِهِ، وَعَظُمَتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، وَازْدَادَ لَهُ هَيْبَةً وَإِجْلَالًا، وَشَكَرَ اللهَ تَعَالَى عَلَى تَبْلِيغِهِ رُتْبَةَ الْوَافِدِينَ إِلَيْهِ، وَلْيَسْتَشْعِرْ عَظَمَةَ الطَّوَافِ بِهِ؛ فَإِنَّهُ صَلَاةٌ.

وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ فِي مِنَى، فَيَتَذَكَّرَ بِمَا يَرَى مِنَ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ، وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ،

وَاجْتِمَاعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ وَشَدَائِدَ: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 10-13].

وَإِذَا جَاءَ رَمْيُ الْجِمَارِ؛ فَاقْصِدْ بِذَلِكَ الِانْقِيَادَ لِلْأَمْرِ، وَإِظْهَارَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ، وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ، وَاتِّبَاعِ الطَّرِيقَةِ، وَتَقْدِيمِهَا عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ وَرَغَبَاتِهَا)).

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْحَجَّ مُنْتَزِعًا لِلْمَرْءِ مِنْ مَأْلُوفِ عَادَتِهِ، آخِذًا بِأُهْبَةِ سَفَرٍ وَآدَابِهِ عَلَى مُقْتَضَىَ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَتَحْصِيلُ زَادٍ مِنْ حَلَالٍ، وَتَهْيِئَةُ جَوٍّ نَفْسِيٍّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ بِوَصْلِ مَنْ قَطَعَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَمِنْ سَدَادٍ لِديُونٍ مُعَلَّقَاتٍ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا إِلَّا إِذَا أُدِّيَتْ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ.

إِذَا أَرَادَ الْمَرْءُ أَنْ يَحُجَّ إِلَى بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيُذِيبُ ثُلُوجَ جِبَالِ الْجَلِيدِ الَّتِي أُقِيمَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهٍ مَرْضِيٍّ عِنْدَ اللهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِلُ الْأَرْحَامَ، وَيَمْحُو الْخُصُومَاتِ، وَيَمُرُّ عَلَى الْقَوْمِ مُسَلِّمًا بَعْدَمَا كَانَ يُعْرِضُ عَنِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ إِذَا مَا لَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ سَلَامًا وَلَا يَحِيرُ مَعَهُ جَوَابًا وَلَا كَلَامًا، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَإِنَّهُ يَنْتَزِعُ نَفْسَهُ مِنْ مَأْلُوفِ عَادَتِهِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ بِقَلْبِهِ قَبْلَ بَدَنِهِ إِلَى بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَرَامِ.

((وَالسَّفَرُ -كَمَا قَالَ الْمَعْصُومُ ﷺ- قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ))، وَكَمَا قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلرَّجُلِ وَقَدْ جَاءَ بِشَاهِدٍ يَشْهَدُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَمَامَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِأَنَّهُ رَجُلٌ عَدْلٌ لَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ فِسْقٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ مِمَّا يَتَعَارَفُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْخِلَالِ الْكَرِيمَةِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، فَجِيءَ بِهَذَا الرَّجُلِ لِكَيْ يَشْهَدَ لَهُ أَمَامَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ لَهُ: ((أَعَامَلْتَهُ فِي الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ، وَفِي التَّعَامُلِ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ يُتَبَيَّنُ وَرَعُ الرَّجُلِ؟)).

قَالَ: ((لَمْ أُعَامِلْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ)).

وَيَا للهِ مِنْ خَصْلَةٍ عُمرَيَّةٍ تُصَابُ فِي هَذَا السُّؤَالِ الْعَجِيبِ! ((أَعَامَلْتَهُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَفِي التَّعَامُل بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ يُتَبَيَّنُ وَرَعُ الرَّجُلِ؟)).

وَيَا لَهَا مِنْ مَزْلَقَةٍ تَنْزَلِقُ فِيهَا أَقْدَامٌ، وَتَهْوِي فِيهَا هَامَاتٌ وَقَامَاتٌ!!

وَيَا لَهَا مِنْ مَدْحَضَةِ مَزَلَّةٍ كَأَنَّمَا أُقِيمَتْ شَاهِدًا عَلَى جَوَازِ الصِّرَاطِ!

وَكَمْ مِنْ مُتَخَلِّفٍ فِي أَمْرِ التَّعَامُلِ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَإِنْ أَخَذَ سَمْتًا صَالِحًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى فَضْلٍ ظَاهِرٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ شُحُّ النَّفْسِ، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

فقال: ((لَمْ أُعَامِلْهُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ)).

قَالَ: ((أَأَصْهَرْتَ إِلَيْهِ أَوْ أَصْهَرَ إِلَيْكَ)).

قَالَ: ((لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ)).

قَالَ -وَهُنَا الشَّاهِدُ-: ((أَسَافَرْتَ مَعَهُ فِي سَفَرٍ وَجُزْتَ مَعَهُ فِي طَرِيقِ مَبْعَدَةٍ، وَفِي السَّفَرِ تُتَبَيَّنُ أَخْلَاقُ الرِّجَالِ؟)).

قَالَ: ((لَمْ أُسَافِرْ مَعَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ)).

قَالَ: ((فَلَعَلَّكَ رَأَيْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَخْفِضُهُ)).

قَالَ: ((ذَلِكَ مَا كَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ)).

قَالَ: ((إِذَنْ؛ فَأَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ، وَأَنْتَ يَا هَذَا! فَاذْهَبْ فَأْتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ)).

مَوْطِنُ الشَّاهِدِ هَاهُنَا؛ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ)).

وَلِذَلِكَ يَحْتَرِزُ الشَّرْعُ الْأَغَرُّ، فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).

وَهِيَ تَرْبِيَةٌ عَمَلِيَّةٌ بِدَرْسٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْحَجِّ إِلَى بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَرَامِ.

تَرْبِيَةٌ عَلَى شَطْرِ الْوَسَائِلِ الْمُؤُدِّيَةِ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ جَنَّةِ الرِّضْوَانِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ الْأَكْرَمُ ﷺ: ((مَنْ يَضْمَنُ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ)).

مَنْ يَضْمَنُ لِي لِسَانَهُ.. مَنْ يَضْمَنُ لِي كَلَامَهُ.. مَنْ يَضْمَنُ لِي بَيَانَهُ، وَمَنْ يَضْمَنُ لِي مَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ؛ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ.

وَيَا لَهَا مِنْ خَصْلَةٍ يَتَخَلَّفُ عِنْدَهَا أَقْوَامٌ، وَتَسْقَطُ عِنْدَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْهَامِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ يَضْمَنُ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ -يَعْنِي: لِسَانَهُ- وَيَضْمَنُ لِي مَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ -يَعْنِي: فَرْجَهُ-)).

وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ وَكَمْ مِنَ امْرَأَةٍ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ لَا يَنْكَشِفُ وَلَا تَنْكَشِفُ لَهُ وَلَا لَهَا سَوْأَةٌ الْعُمُرَ كُلَّهُ عَلَى حَرَامٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ اللِّسَانُ كَالْمِبْرَدِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ بِكُلِّ آفَاتِ اللِّسَانِ.

فَيَأْتِي الْحَجُّ لِكَيْ يُخْرِجَ الْإِنْسَانَ مِنْ مَأْلُوفِ عَادَتِهِ مُنْتَزِعًا إِيَّاهُ مِنْ وَسَطِ الزَّوْجَةِ الْحَسْنَاءِ وَالْأَوْلَادِ الْأَوْفِيَاءِ وَالْفِرَاشِ الْوَثِيرِ وَاللَّيْلِ الطَّوِيلِ الْهَنِيءِ فِي بَرْدِ الشِّتَاءِ يَجِدُ مَنْعَمًا، وَفِي قَيْظِ الصَّيْفِ يَجِدُ مَقِيلًا وَمَبْرَدًا، وَمَعَ ذَلِكَ يَنْتَزِعُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَلْبًا وَقَالَبًا.

وَحَذَارِ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ النَّاسَ يَحُجُّونَ إِلَى بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْبَاحًا وَقَوَالِبَ قَبْلَ أَنْ يَحُجُّوا إِلَى بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفْئِدَةً وَأَرْوَاحًا، إِنَّمَا يَشْتَاقُ القَلْبُ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا تَهْفُو الرُّوحُ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا يَصْبُو الْفُؤَادُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَأْتِي حَادِي الشَّوْقِ فَيَقُودُ الْمَرْكَبَ بِسَوَقِ الْجَسَدِ بِسِيَاطِ الْمَحَبَّةِ حَتَّى تَمْتَطِي مَطَايَا الشَّوْقِ بِحَادِي الْوَجْدِ إِلَى بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَرَامِ.

إِنَّ الْحَجَّ بِدَرْسٍ مِنْ دُرُوسِهِ الْمُسْتَفَادَاتِ يُخْرِجُ الْمَرْءَ مِنْ مَأْلُوفِ عَادَتِهِ لِكَيْ يَضَعَهُ عَلَى أُهْبَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِلسَّفَرِ الْأَكْبَرِ، فَهَذَا سَفَرٌ فِيهِ فِرَاقٌ؛ فِرَاقٌ لَعَلَّهُ لَا يَكُونُ بَعْدَهُ مِنْ لِقَاءٍ، فِرَاقٌ لَعَلَّهُ يَكُون فِرَاقَ الْأَبَدِ، لَعَلَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ تَوَاصُلٍ أَبَدًا.

وَكَمْ مِنْ ذَاهِبٍ لَمْ يَعُدْ!

وَكَمْ مِنْ حَاجٍّ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ أَنْ يَرَى أَهْلَهُ مِنْ بَعْدِهَا إِلَى يَوْمِ اللِّقَاءِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!

فَهَذَا سَفَرٌ يُعَلِّمُ الْأُهْبَةَ بِأَخْذِ الِاسْتِعْدَادِ لِلسَّفَرِ الْأَكْبَرِ..

انْظُرْ -حَفِظَكَ اللهُ- إِلَى مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي غَفْلَاتِهِمْ؛ إِنَّهُمْ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنْ يَهُمَّ بِالسَّفَرِ عَزِيمَةً فَإِنَّهُ يُعِدُّ الْعُدَّةَ لَهُ، وَلَا يَخْرُجُ إِلَى السَّفَرِ عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْأُهْبَةُ بِإِعْدَادِ الْعُدَّةِ وَبِأَخْذِ جَمِيعِ الْوَسَائِلِ!

يَا للهِ الْعَجَبُ!!

فَأَنْتَ عَلَى سَفَرٍ.. وَعَلَى سَفَرٍ طَوِيلٍ جِدًّا، وَعَلَى لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعُمُرِ إِذَا مَا أَتَتْ بِظَلَامِهَا فَلَا صُبْحَ لَهَا إِلَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْقُبُورِ فِي يَوْمِ النُّشُورِ لِلْعَرْضِ عَلَى الْمَلِيكِ الْغَفُورِ، فَإِمَّا مُعَذَّبٌ رَدِيٌّ وَإِمَّا مَنعْمٌ هَنِيٌّ، وَالْأَمْرُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.

إِنَّ الْإِنْسَانَ يَأْخُذُ بِهَذَا الدَّرْسِ الْعَمَلِيِّ الْأَوَّلِ؛ بِأَخْذِ الْأُهْبَةِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلسَّفَرِ الطَّوِيلِ الَّذِي الْمَرْءُ عَلَيْهِ مِنْ لَحْظَةِ مَا يُولَدُ إِلَى أَنْ يُؤَذِّنَ مُؤَذِّنُ الْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَوْدَةِ عَوْدَةِ الرُّوحِ لِلَّذِي خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ بِتَرْبِيَةِ اللِّسَانِ عَلَى الْبُعْدِ عَنِ الْجِدَالِ وَالْخِصَامِ، وَعَنِ الشِّقَاقِ وَعَنِ الْمِرَاءِ، وَعَنْ كُلِّ آفَاتِ اللِّسَانِ.

فَهَذَا تَدْرِيبٌ عَمَلِيٌّ.. تَدْرِيبٌ عَمَلِيٌّ فِي بِيئَةٍ صَحِيحَةٍ مُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ إِنَّمَا هُوَ فِي حِرْصٍ عَلَى أَنْ يَعُودَ مَغْسُولًا مِنْ خَطَايَاهُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).

وَانْظُرْ إِلَى دَرَجَةِ الِاسْتِعْدَادِ خُطْوَةً مِنْ بَعْدِ خُطْوَةٍ عِنْدَمَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْ ثِيَابِهِ الَّتِي لَا تُفَارِقُهُ وَلَا يُفَارِقُهَا؛ أَخْذًا بِكَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ، ((ثِيَابُنَا مَا نَأْخُذُ مِنْهَا وَمَا نَضَعُ؟))؛ يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ ﷺ.

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَرَى عَوْرَتَكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فَافْعَلْ)).

قَالَ قَائِلُهُمْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! فَإِنَّ أَحَدَنَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ خَالِيًا وَمَا مَعَهُ مِنْ إِنْسٍ وَلَا جِنٍّ يَرَاهُ)).

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ)).. فاَللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ.. فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ.. وَهُوَ خَيْرُ شَاهِدٍ وَخَيْرُ رَقِيبٍ، -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سُبْحَانَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سُبْحَانَهُ-.

يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْ ثِيَابِهِ وَتَخْرُجُ عَنْهُ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي شِبْهِ الْأَكْفَانِ، بَلْ هِيَ أَكْفَانٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ لَمَّا دَخَلَتْ رِجْلُهَا فِي جُحْرِ جُرْذَانَ -فِي جُحْرِ فِئْرَانَ- فَوَقَعَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ فَمَاتَ.

فَأَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثِيَابِ إِحْرَامِهِ، فِي الْأَكْفَانِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْحَاجُّ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ دُنْيَاهُ تَارِكًا إِيَّاهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَالْكُلُّ فِي مَشْهَدِيَّةِ الْعُبُودِيَّةِ مَعَ الْكُلِّ؛ كَبِيرٌ أَمَامَ صَغِيرٍ، وَرَئِيسٌ أَمَامَ مَرْؤُوسٍ، وَعَظِيمٌ مَعَ حَقِيرٍ، الْكُلُّ عَلَى ثِيَابٍ وَاحِدَةٍ، بِلِسَانِ ذُلٍّ وَاحِدٍ، بِدُمُوعٍ مُنْسَكِبَاتٍ عَلَى مَذْبَحِ التَّوْبَةِ لِرَبِّ الْكَائِنَاتِ للهِ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ.

الْكُلُّ يَرَى بَعْضُهُ بَعْضًا فِي مَشْهَدِيَّةِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مَا فَارِقٍ يُفَرِّقُ وَلَا حَاجِزٍ يَحْجِزُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ بَعِيدًا عَنْ ظَرْفٍ يَطْرَأُ عَلَيْهِ بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَالْحَجِّ إِلَى بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَرَامِ، الْمَرْءُ فِي عَادِيَّاتِ أَحْوَالِهِ إِنَّمَا يَتَحَرَّكُ فِي الْعِبَادَةِ مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْغَالِبِ عَلَى السَّتْرِ وَعَلَى الْخَفَاءِ مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَتَبْقَى الْحَوَاجِزُ مَنْصُوبَةً بَيْنَ قَائِدٍ وَمَقُودٍ وَبَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ وَبَيْنَ مُتَقَدِّمٍ وَمُتَأَخِّرٍ، وَبَيْنَ عَالٍ وَوَاطِئٍ تَبْقَى الْحَوَاجِزُ مَنْصُوبَةً؛ لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَرَى الْآخَرَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ بَاكِيًا بِذُلِّ الْخُضُوعِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيُخْرِجُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ خَلْوَاتِهِمْ، وَيَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَظْهَرِيَّةَ عُبُودِيَّاتِهِمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَشْهَدِيَّةِ الْعُبُودِيَّةِ الْبَادِيَةِ الظَّاهِرَةِ، الْكُلُّ فِي خُضُوعٍ وَذِلَّةٍ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَكْرَمُ ﷺ: ((الْحَجُّ عَرَفَةُ)).

فَالْكُلُّ وَاقِفٌ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ إِلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِبُكَاءِ قُلُوبٍ ضَارِعَاتٍ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، الْكُلُّ يَعُودُ يُرِيدُ تَوْبَ الْقُلُوبِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَا رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ هَذَا الدَّرْسَ مِنْ دُرُوسِ الْحَجِّ الْمُسْتَفَادَاتِ؛ لِكَيْ يُحَصِّلَهُ الْمَرْءُ إِذَا مَا عَادَ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ بِالدَّرْسِ الْعَمَلِيِّ عَلَى لُبْسِ الْأَكْفَانِ، وَعَلَى التَّمَرُّسِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ مُسَلَّمًا مِنْهُ بِسَلَامٍ أَكِيدٍ أَبِيدٍ كُلُّ مَخْلُوقَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَتَى مَا دَخَلْتَ فِي إِحْرَامِكَ حَرُمَ عَلَيْكَ أَنْ تَمَسَّ وَلَوْ شَعْرَةً وَاحِدَةً، يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَيَحْظُرُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ أَنْ يَمَسَّ شَعْرَةً مِنْ جَسَدٍ وَلَوْ شَعْرَةً وَاحِدَةً.

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا السَّلَامِ الْأَبِيدِ الْأَكِيدِ!

وَأَيْضًا تَسْلَمُ مِنْهُ مَخْلُوقَاتُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى الْجَمَادَاتُ يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا سَلَامًا قَائِمًا فِي الْحَرَمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَرَّرُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَبَدًا أَنْ يُنْقَلَ شَيْءٌ مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ وَلَا مِنْ تُرَابِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ!

انْظُرْ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ!

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَحْمِي لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ دِينَهَا وَإِخْلَاصَهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُمْنَعُ أَنْ يَذْهَبَ الْمَرْءُ إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ ثُمَّ يَحْمِلُ مِنْ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ حَجَرًا يَأْتِي بِهِ إِلَى مَوْطِنِهِ، يُمْنَعُ هَذَا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَا فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ عَلَى حُدُودِ الْحَرَمِ.. لَا الْحَرَمُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ النَّاسُ، وَإِنَّمَا الْحَرَمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَطَّاهُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ إِذَا كَانَ قَاصِدًا بَيْتَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِحُدُودٍ مَحْدُودَةٍ وَقَوَاعِدَ مَمْدُودَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

انْظُرْ إِلَى هَذَا السَّلَامِ، يَمْنَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْكَ جَمَادَهُ كَمَا يَمْنَعُ مِنْكَ نَبَاتَهُ؛ فَلَا يَجُوزُ لِمُحْرِمٍ أَنْ يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْحَرَمَيْنِ إِلَّا الْإِذْخَرِ إِذَا نَوَى الْإِحْرَامَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ دَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا.

يَا للهِ! يَا لَهُ مِنْ سَلَامٍ، فَضْلًا عَمَّا هُنَاكَ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ وَمِنْ طَيْرِ السَّمَاءِ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ مَحْظُورٌ مَحْظُورٌ، فَضْلًا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَنَاسِيِّ مِنْ خَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُدَرِّبُ الْمُسْلِمِينَ تَدْرِيبًا عَمَلِيًّا عَلَى السَّلَامِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَسْلَمَ مِنْكَ كُلُّ شَيْءٍ، لِذَا كَانَ مِنْ عَامَّةِ دُعَاءِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنْ يَقُولَ أَخْذًا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ: ((اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ))، ((اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ)) اللهم سَلِّمْنَا وَسَلِّمْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّلَامُ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ فِيهِ مِنَ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَاتِ مَا يُصْلِحُ وَجْهَ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَمَعَ مِنْ طَائِفَةِ الْأَرْضِ عَلَى مُسْتَقَرِّهَا فِي الْمَحْفَلِ الْأَكْرَمِ الْأَكْبَرِ فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ.. جَمَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُمَثِّلِينَ لِلْأُمَّةِ بَادِيهَا وَحَاضِرِهَا، مُدُنِهَا وَقُرَاهَا، نُجُوعِهَا وَكُفُورِهَا، مُتَحَضِّرِهَا وَمُتَخَلِّفِهَا، حَتَّى مِنْ سُكَّانِ الْغَابَاتِ مِمَّنْ أَعْلَنَ الشَّهَادَةَ للهِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، جَمَعَ مُمَثِّلِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُكَرَّمَةِ؛ لِكَيْ يُقِيمَهُمْ، وَلَكِيْ يَمْزِجَ هَؤُلَاءِ الْمُمَثِّلِينَ لِلْأُمَّةِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ؛ لِكَيْ يَكُونَ الْهَمُّ هَمًّا وَاحِدًا، وَلَكِيْ يَعُودَ النَّاسُ كَأَنَّمَا انْفَصَلَ بَعْضٌ مِنْ بَعْضٍ مِنْ جَسَدٍ وَاحِدٍ بِأَعْضَاءَ مُتَبَايِنَاتٍ عَلَى امْتِدَادِ الْأَرْضِ، لِكَيْ يَتَنَفَّسَ الْكُلُّ بِرِئَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوْمِي لَا يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُقَرِّرُ أَنَّ ((مَثَلَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا مَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ لَنَا فِي الْحَجِّ مِنَ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَاتِ أَنَّ أَيَّ مَجْمُوعٍ وَأَنَّ أَيَّ أُمَّةٍ وَأَنَّ أَيَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى أَيِّ صُورَةٍ كَانَتْ إِذَا مَا أَرَادَتْ أَنْ تَكُونَ وَاصِلَةً -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- إِلَى السَّعَادَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْقِيَامِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْمُوَصِّلِ إِلَى مَا تُرِيدُ؛ فَعَلَيْهَا أَنْ تَنْفِيَ الْجَدَلَ، وَأَنْ تَطْرَحَ الْعِنَادَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ ذَلِكَ مَنْبُوذًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا نَزَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَةَ مِنْ أُمَّةٍ بَعْدَمَا آتَاهَا إِيَّاهَا إِلَّا إِذَا مَا أُوتِيتِ الْجَدَلَ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

دَرْسٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ دُرُوسِ الْحَجِّ الْعَظِيمَاتِ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْكَامِلُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِيدٍ إِنَّمَا يَأْخُذُ الْمَرْءُ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ إِسْلَامِهِ، وَهَذَا الْعِيدُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَائِدًا عَامًا مِنْ بَعْدِ عَامٍ هُوَ عِيدُ التَّضْحِيَة وَعِيدُ الِاسْتِسْلَامِ.. الِاسْتِسْلَامُ كُلُّهُ فِي الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا، عِنْدَمَا يَأْتِي إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِزَوْجِهِ وَوَلَدِهَا الرَّضِيعِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِأَثْمَنِ حِمْلٍ يُحْمَلُ قَطُّ.. يَجْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ رَابِيَةٍ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا، وَإِنَّكَ لَتَعْجَبُ الْعَجَبَ كُلَّهُ -سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- إِنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ أَتَى بِابْنِهِ الرَّضِيعِ وَبِزَوْجِهِ كَسِيرَةِ الْقَلْبِ لِلْفِرَاقِ؛ فَجَعَلَهُمَا فِي وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُحَرَّمِ.

وَتَتَدَاعَى الْأَحْدَاثُ بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُنْبِتُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَاءَ مِنْ جَوْفِ الصَّخْرِ الصَّلْدِ الْجُلْمُودِ لِيَسْقِيَ الْحَجِيجَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا زَالَتْ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا ((طَعَامَ طُعْمٍ وَشِفَاءَ سُقْمٍ)) كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

أَيُّ عَيْنٍ مُبَارَكَةٍ هِيَ!

وَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي حِكَايَتِهِ لِقِصَّةِ إِسْلَامِهِ وَفِي قُدُومِهِ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ يَقُولُ: ((ظَلَلْتُ شَهْرًا كَامِلًا مَا يَدْخُلُ جَوْفِي مِنْ طَعَامٍ إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ شُرْبِي مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، قَالَ: فَسَمِنْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَدَتْ عُكَنُ بَطْنِي -وَهِيَ الْكِسْرَاتُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَطْنِ مِنَ الشَّحْمِ وَمِنَ السِّمَنِ عِنْدَمَا يَسْمَنُ الْإِنْسَانُ وَيَكْتَظُّ إِهَابُهُ وَيَضِيقُ عَلَيْهِ جِلْدُهُ- يَقُولُ: حَتَّى بَدَتْ عُكَنُ بَطْنِي سِمَنًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ))، وَمَا يَدْخُلُ جَوْفَهُ إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ شُرْبِهِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ.

أَيُّ عَيْنٍ مُبَارَكَةٍ هِيَ!

وَأَيُّ نَبْعٍ فَيَّاضٍ بِفُيُوضَاتِ رَحَمَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْبُعُ هُنَاكَ مِنْ عَقِبِ جِبْرِيلَ أَوْ مِنْ طَرْفِ جَنَاحِهِ بِهَمْزَتِهِ.

ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُقَدِّرُ مَقَادِيرَ لَا يَعْلَمُ حِكْمَتَهَا إِلَّا هُوَ.

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَجْعَلُ وَلِيدَهُ وَأُمَّهُ.. يَجْعَلُهُمَا هُنَاكَ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُحَرَّمِ، وَتَمُرُّ الْأَيَّامُ وَيَكْبُرُ الرَّضِيعُ وَيَشِبُّ شَبَابًا، حَتَّى إِذَا مَا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيُ، وَصَارَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ يَتَوَكَّأُ عَلَى وَلَدِهِ هَذَا وَقَدْ أَصْبَحَ يَافِعًا مِلْءَ السَّمْعِ وَمِلْءَ الْبَصَرِ وَحَشْوَ الْفُؤَادِ، يَأْتِيهِ أَمْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَنِ اذْبَحْهُ بِيَدَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ!

يَا للهِ الْعَجَبُ!

إِنَّمَا هُوَ الدَّرْسُ الْعَظِيمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَجِّ إِلَى الْمَشَاهِدِ الْمُكَرَّمَةِ، وَهُوَ دَرْسُ التَّسْلِيمِ الْعَمَلِيِّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ مَبْنَاهُ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمَلِيكِ الْعَلِيمِ.

وَإِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يُعَارِضُ وَلَا يَعْتَرِضُ وَلَا يُجَادِلُ وَلَا يُخَاصِمُ وَلَا يُعَانِدُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَا وَلَدُهُ، وَكَذَا أُمُّ وَلَدِهِ، كُلٌّ مُسَلِّمٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُ مُصْطَفًى للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33].

وَالِاصْطِفَاءُ يَحْتَاجُ صَفَاءً وَتَصْفِيَةً، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّصْفِيَةِ هَاهُنَا.. لَا بُدَّ مِنَ التَّصْفِيَةِ لِلْأَصْفِيَاءِ الْخُلَّصِ مِثْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا ﷺ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ-.

إِنَّ أَيَّ أُمَّةٍ تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ بِأَسْبَابِ الْعِزِّ عَلَيْهَا أَنْ تَجْعَلَ الْجِدَالَ جَانِبًا، وَأَنْ تُقْبِلَ عَلَى الْوِئَامِ لَا عَلَى الْخِصَامِ، وَأَنْ تُقْبِلَ عَلَى الِائْتِلَافِ وَأَنْ تَنْبِذَ الِاخْتِلَافَ، وَإِلَّا فَسَوْفَ يُصِيبُهَا قَدَرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْأُمَمِ -نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

((أَهَمِّيَّةُ مَعْرِفَةِ مَقَاصِدِ الْعِبَادَاتِ وَغَايَاتِهَا))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَرَضَ فِي الْعِبَادَاتِ صُوَرًا ظَاهِرَاتٍ؛ لِكَيْ تَدُلَ تِلْكَ الصُّوَرُ الظَّاهِرَاتُ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ نَوَازِعِ شَوْقٍ خَفِيَّاتٍ، وَإِلَّا فَعِبَادَةٌ مَرْدُودَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ، إِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْقَلْبُ بِنَوَازِعِ شَوْقٍ تَضْبِطُ الْجَوَارِحَ لِكَيْ تُقِيمَهَا عَلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَنْهَجِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

فَمَنْ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي الْجَلْوَةِ وَفَقَدَهَا فِي الْخَلْوَةِ فَهُوَ مُنَافِقٌ عَرِيقٌ، وَمَنْ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَفَقَدَهَا فِي الْجَلْوَةِ فَهُوَ صَادِقٌ ضَعِيفٌ، وَمَنْ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي الْجَلْوَةِ وَفِي الْخَلْوَةِ فَهُوَ مُخْلِصٌ عَرِيقٌ، بَلْ هُوَ مِمَّنْ يَحْذُو حَذْوَ الصِّدِّيقِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ وَجَمَعَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَهُ مَعَ نَبِيِّنَا ﷺ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ-.

إِنَّ ضَبْطَ النِّسْبَةِ بَيْنَ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِمَّا يَحْدُو بِقُلُوبِ الْخَلْقِ إِلَى مَنْهَجِ الرَّبِّ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، وَأَمَّا تَخَلُّفُ الظَّاهِرِ عَنْ دَعْوَى الْبَاطِنِ أَوْ زِيَادَةُ الْبَاطِنِ عَلَى فَحْوَى الظَّاهِرِ فَأَمْرٌ مَرْدُودٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ لِلْخَلْقِ تَعْذِيبًا وَلَا إِيلَامًا، بَلْ يُرِيدُ بِهِمْ رَحْمَةً وَسَلَامًا، إِذَا مَا أَعْلَنُوا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِسْلَامًا وَاسْتِسْلَامًا.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَا يَفْعَلُ شَيْئًا بِجُوعِكُمْ وَلَا بِعَطَشِكُمْ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا بِنَصَبِكُمْ وَلَا بِسَهَرِكُمْ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُزَكِّيَ أَرْوَاحَكُمْ وَأَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَكُمْ بِالْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِصَفِّ الْأَقْدَامِ فِي خَلَوَاتِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِيكِ الْعَلَّامِ فِي جُنْحِ الظَّلَامِ وَالْخَلْقُ نِيَامٌ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَعْفِيرِ الْجَبْهَاتِ فِي التُّرَابِ ذُلًّا وَاسْتِسْلَامًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

مَا يَفْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكْرَتُمْ وَآمَنْتُمْ، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ لِلْخَلْقِ تَعْذِيبًا وَلَا إِيلَامًا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ مِنْهُمْ قُلُوبًا، وَيُرِيدُ مِنْهُمْ أَرْوَاحًا مَنْصُوبَةً هِيَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تُعْلِنَ الْخُضُوعَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ أَمْرٌ يَخْضَعُ لِبَدَهِيَّاتِ الْعَقْلِ وَمُسَلَّمَاتِهِ.

انْظُرْ فِي أَبِيكَ وَأُمِّكَ تَجِدُ شَرْعًا وَعُرْفًا وَقَانُونًا طَاعَةَ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَفْرُوضَةً عَلَى الْأَبْنَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبٌ ظَاهِرٌ -فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ- لِلْوُجُودِ، وَمَهْمَا كَبُرْتَ فَعَلَيْكَ أَنْ تَحْنِيَ جَبْهَتَكَ مُقَبِّلًا عَلَى يَدَيْ أُمِّكَ بَلْ عَلَى قَدَمَيْهَا بَلْ تَحْتَ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلرَّجُلِ: ((فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا)).

وَمَا الَّذِي لَهُمَا مِنَ الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ عَلَيْكَ؛ أَنَّهُمَا كَانَا سَبَبًا لِوُجُودِكَ ظَاهِرًا، ثُمَّ إِنَّهُمَا غَذَوَاكَ حَتَّى كَبُرْتَ، وَرَعَيَاكَ حَتَّى تَرَعْرَعْتَ، مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يَمْنَحَاكَ حَيَاةً مِنْ عِنْدِهِمَا وَلَمْ يَسْقِيَاكَ شَرْبَةً بِمِلْكِهِمَا، وَلَمْ يَغْذُوَاكَ لُقْمَةً مِمَّا مَلَكَتْ أَيْدِيهِمَا، وَإِنَّمَا الْكُلُّ مِلْكٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَلْ هُمَا أَنْفُسُهُمَا مَمْلُوكَانِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُطْعِمُهُمَا رَبُّهُمَا، وَيَكْسُوهُمَا، وَيَسْقِيهِمَا، وَيَرْعَاهُمَا مِنْ رِعَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلَكِنْ لِرِعَايَةِ النِّعْمَةِ قَدْرٌ كَبِيرٌ مِنَ الْعِصْمَةِ، فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ أَنْشَاكَ مِنْ عَدَمٍ؟!!

وَمَا تَقُولُ فِيمَنْ قَدْ أَبْرَاكَ مِنْ كُلِّ سَقَمٍ؟!!

وَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَغْذُوكَ مِنْ بَعْدِ جُوعٍ وَيُسْقِيكَ مِنْ بَعْدِ ظَمَأٍ وَيَرْعَاكَ وَأَنْتَ فِي الضَّعْفِ كَائِنٌ؟!!

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَمِنْ بَعْدِهِ قَادِرٌ عَلَيْكَ كَمَا بَيَّنَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

بَيْنَمَا رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ لَهُ فِي ثَوْبَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا عَلَى الْأَرْضِ يَجُرُّهُمَا خُيَلَاءَ، وَيَمْشِي كَالطَّاوُوسِ يَنْظُرُ فِي عِطْفَيْهِ، وَلَا تَسَعُهُ الْأَرْضُ بِمَا وَمَنْ عَلَيْهَا، بَيْنَمَا الرَّجُلُ كَذَلِكَ فِي خُيَلَائِهِ؛ إِذْ خَسَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْأَرْضَ)).

يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا -وَفِي رِوَايَةٍ: يَتَلَجْلَجُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

فَهَذَا عَذَابُهُ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّاعَةَ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَاصِيَتُكَ فِي قَبْضَتِهِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَادِرٌ عَلَيْكَ وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِكَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَانْظُرْ إِلَى أَحَبِّ أَحِبَّائِكَ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، وَانْظُرْ إِلَيْهِ وَهُوَ تَضْطَرِبُ بِهِ وَتَتَنَازَعُهُ سِهَامُ الْمَنُونِ، مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟!!

وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ؟!!

وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ حِبَالَ سَلَامَةٍ يَرُدُّهُ بِهَا مِنْ بِحَارِ مَوْجٍ لُجِّيٍّ فِي مَوْتٍ عَظِيمٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْ حَيَاةٍ؟!!

مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْقِذَهُ مِنَ الْمَوْتِ الْمُحَقَّقِ؟!!

بَلِ انْظُرْ إِلَى أَحَبِّ أَحِبَّائِكَ فِي سِيَاقَةِ الْمَرَضِ الْكَائِنِ فِي جَسَدِهِ؛ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبْرِئَهُ مِنَ السُّقْمِ؟!!

وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْفِيَهُ مِنَ الضُّرِّ؟!!

وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْخُذَ بِيَدَيْهِ؟!!

لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

عِبَادَ اللهِ! عَلَيْكُمْ بِالنَّظَرِ فِي الْفَحْوَى وَفِي الْمَضْمُونِ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكُمُ النَّظَرُ فِي الشَّكْلِ وَفِي الظَّاهِرِ، ثُمَّ طَبِّقْ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ، وَالْزَمْ ذَلِكَ مَعَ ذَلِكَ؛ تَصِلُ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ -إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَغْفِرَ لَنَا جَمِيعًا وَأَنْ يَرْحَمَنَا.

اللهم اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، اللهم اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، اللهم اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا.

اللهم عَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا، عَافِنَا وَاعْفُ عَنَّا.

اللهم اصْرِفْ عَنَّا أَعْيُنَ النَّاظِرِينَ وَقُلُوبَ الْحَاسِدِينَ وَالْبَاغِينَ، وَاحْفَظْنَا كَمَا حَفِظْتَ الرُّوحَ فِي الْجَسَدِ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

المصدر:فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ غَايَاتُهَا وَمَقَاصِدُهَا

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الرد على الملحدين: من الأدلة المادية على وجود الله
  الْمَالُ الْحَرَامُ، وَأَثَرُهُ الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  مصر بين حاضر الكفايات وماضي المجاعات
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَشَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ
  الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق
  التَّفَوُّقُ الْعِلْمِيُّ وَأَثَرُهُ فِي تَقَدُّمِ الْأُمَمِ
  الرد على الملحدين:دلالة الآيات الكونية على خالقها ومبدعها
  بل انتصر الإسلام على السيف
  مواعظ رمضانية - الجزء الأول
  مفتاح دعوة المرسلين
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان