تفريغ مقطع : حول ما يجوزُ مِنْ تزكيةِ النَّفْسِ
.((حول ما يجوزُ مِنْ تزكيةِ النَّفْسِ))
((وأفضحُ ما يكون للمرءِ دعواه بما لا يقوم به، وقد عاب العلماءُ ذلك قديمًا وحديثًا وقالوا فيه نظمًا ونثرًا)).
وفي تأويلِ قوله تعالى: {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
قال القرطبي -رحمه الله-: ((دلَّت الآيةُ على جوازِ أنْ يَخطبَ الإنسانُ عملًا يكون له أهلًا; فإن قيل: فقد روى مسلمٌ عن عبد الرحمن بن سَمُرة قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا -أَيْ أُسْلِمْتَ إِلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَعَكَ إِعَانَةٌ- وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا)). أخرجه البخاري ومسلم.
إن قيل هذا في مقابل الآية؛ فالجواب:
أولًا: أن يوسف –عليه السلام- إنما طلبَ الولاية؛ لأنه عَلِم أنه لا أحد يقوم مقامَه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقِهم؛ فرأى أنَّ ذلك فرضٌ مُتعينٌ عليه, فإنه لم يكن هناك سواه، وكذا الحكم اليوم, لو عَلِمَ إنسان من نفسه أنه يقوم بالحقِّ في القضاء أو الحِسْبَة ولم يكن هناك مَن يَصْلُح ولا يقوم مقامه؛ تَعيَّنَ ذلك عليه، ووجبَ أنْ يتولاهَا ويسألَ ذلك، ويخبرُ بصفاتهِ التي يستحقها بها من العلمِ والكفايةِ وغير ذلك، كما قال يوسفُ –عليه السلام-.
فأما لو كان هناك مَن يقوم بها ويَصلُحُ لهَا وعَلِمَ بذلك فالأَوْلى ألا يطلب; لقوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن: ((لا تسأل الإمارة))، فإن في سؤالِها والحِرصِ عليها، مع العلمِ بكثرةِ آفاتِها وصعوبة التَّخلُّصِ منها دليلًا على أنه يطلبها لنفسهِ ولأغراضه، ومَن كان هكذا يوشك أنْ تَغلِب عليه نفسه فيَهْلِك, وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((وُكِلَ إليها))، ومن أباها لعِلْمِهِ بآفاتِها، ولخوفهِ من التقصيرِ في حقوقِها فرَّ منها، ثم إن اُبتليَ بها فيُرجى له التخلُّص منها، وهو معنى قوله: ((أُعين عليها)).
الثاني: أنه لم يقُل: إني حسيبٌ كريم، وإنْ كان كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الكريمُ ابن الكريمِ ابن الكريمِ ابن الكريم يوسفُ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيم)). كما أخرجه البخاري، ولا قال يوسف –عليه السلام-: إني جميلٌ مليحٌ، وإنما قال: إني حفيظٌ عليم، فسألها بالحفظِ والعلم، لا بالنَّسبِ والجمال.
الثالث: إنما قال ذلك عند مَن لا يعرفه فأرادَ تعريفَ نفسه، وصار ذلك مُستثنًى من قوله -تعالى-: {فَلا تُزَكّوا أَنفُسكُمْ}.
الرابع: أنه رأى ذلك فَرْضًا مُتعينًا; لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله تعالى أعلم((.
ودلت الآيةُ أيضًا على أنَّ الإنسانَ يجوزُ له أنْ يصفَ نفسه بما فيه من عِلمٍ وفضلٍ:
قال الماوردي: ((وليس هذا على الإطلاق في عمومِ الصفات، ولكنه مخصوصٌ فيما اقترنَ بوصله، أو تعلق بظاهرٍ من مَكسبٍ، وممنوعٌ فيما سواه، لما فيه من تزكية ومُراءاة)).
وقوله تعالى {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ}: أي ولِّني خزائنَ الأرض.
{إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}: أمينٌ، أحفظُ ما تستحفظنيه، عَالِمٌ بوجوه التَّصرف، وصفًا لنفسهِ بالأمانةِ والكفاية اللتين هما طِلبةُ الملوكِ ممن يولونهم، وإنما قال ذلك ليتوصلَ إلى إمضاءِ أحكامِ اللّه تعالى وإقامةِ الحق وبَسْطِ العدل، والتمكن مما لأجله تُبعثُ الأنبياء إلى العباد، ولعِلمِه أنَّ أحدًا سواه لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولِيةَ ابتغاءَ وجهِ اللّه لا لحبِّ المُلك أو الدنيا.
فيوسف –عليه السلام- نبيٌّ من أنبياءِ اللهِ المُكرَمِين يريدُ أن يُمضي حكمَ اللهِ، ويقيمُ الحقَّ، ويبسطُ العدل، ولم يكن هناك مَن يقوم مَقامه في ذلك؛ فطلب التوليةَ لذلك لا لحظِّ نفسه.
التعليقات
مقاطع قد تعجبك